“آفاق المجالس الجهوية في موريتانيا في ظل تواضع مكاسب التجربة البلدية”
بسم الله و الصلاة و السلام على حبيبي رسول الله. و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب.
ندوة منظمة من طرف المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية ليومي 30 و 31 يوليو 2022 تحت عنوان:
“آفاق المجالس الجهوية في موريتانيا في ظل تواضع مكاسب التجربة البلدية”
مشاركتي
عنوان المحور المتناول إن شاء الله:
هل يمكن تصور نجاح تجربة المجالس الجهوية في موريتانيا في ظل ضعف أداء المجالس البلدية؟
…/…
اسمحوا لي أن أعبر هنا للإخوة في المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية عامة و أخي الفاضل رئيسه خاصة، د/ ديدي ولد السالك، عن شكري و امتناني على ما يقومون به من أعمال جبارة لبلورة رؤى استشرافية لصالح هذا البلد و بمناسبة إشراكي في هذه الندوة و لست بأفضل من تسند إليه هذه المهمة و أنا في رحاب أهل العقول الراجحة والمستويات العالية و التجارب الناجحة من ذوي الاختصاص راجيا من الله التوفيق لي و للجميع بما فيه الخير للبلاد و العباد.
سأحاول أن أتناول الموضوع في نقاط خمس إن شاء الله ستتمحور كالتالي:
1-توطئة و لو قصيرة تبريرا و تشجيعا للخيار الإستراتيجي للدولة المتمثل في إشراك المواطن في تسيير شؤونه المحلية بنفسه، خصاله و تأثيراته الإيجابية اجتماعيا و اقتصاديا و سياسيا،
2-إرهاصات اللامركزية قبيل و بعيد الاستقلال،
3-الرجوع إلى تجربة البلديات، النجاحات و الإخفاقات،
4-المجالس الجهوية: ( رغم مشروعية الطموح هل القرار وارد “توقيتا” في ظل هذا الواقع المعيق؟)
5-خلاصة: ما هي الآفاق المتوخاة من واقع هذه صفاته؟
أما عن التوطئة:
يقول الأستاذ في كلية القانون عبدي ولد محمد في مقال مطول عن اللامركزية بعنوان: اللامركزية في موريتانيا، حقائق و آفاق”أن عالمنا اليوم “المتحضر” ينقسم حسب توجهين متعارضين إثنين مع التوازن أو التعادل ما بينهما. توجه يميل إلى المركزية الإدارية و أما الآخر فخياره هو اللامركزية.
وأمام الكثرة المتصاعدة للمسؤوليات و المهام على كاهل الإدارة و شساعة وترامي أطراف أرض الوطن و ثقافة تشتت السلطة و رفض مركزيتها نتيجة لطبيعة الساكنة مع وجود الطموح المتزايد من أجل تلبية الحاجيات للمواطن كان حتما على السلطة المركزية أن تتخلى عن بعض صلاحياتها الإدارية و المالية لصالح المجموعات المحلية” أو هكذا قال تقريبا.
و لقد صار في هذا النهج الكثيرون من دول إفريقيا و كان لهم أن أصدروا ترسانة قانونية مهمة بالطبع لكنها معقدة لتكون سهلة التنفيذ من طرف المسؤولين المحليين الجدد نتيجة التكوين الخاص لبعضهم و انعدامه لدى الآخرين. لا هؤلاء و لا هؤلائك كانوا مؤهلين إذن لهذا النوع من المسؤوليات.
حالهم، حالنا في موريتانيا التي تعود تجربتها في اللامركزية إلى ما قبل الاستقلال و كان ذلك ليتمكن الحاكم في فترة الاستعمار من تسهيل رقابة مستعمرته من جهة و جني النسبة الأكثر من العشور و الجبايات الضريبية على الساكنة بواسطة الأمراء و رؤساء القبائل والمشايخ و الوجهاء والرموز التقليديين لمعرفتهم ذويهم مرورا بالممارسة القصيرة لها تطبيقا للقانون الحضري 60-016 و القانون 63-017 الذي تلاه بتاريخ 16 يناير 1963 المنشئ للبلديات آنذاك وصولا إلى التوجه إلى “الدمقرطة المضطربة” للمؤسسات لعام 1986 و ما صاحبه من محاولات التحسينات.
فبالرغم من وجود تعريفات عدة و مختلفة لمفهوم اللامركزية إلا أن كلها تصب في تقسيم فني للدولة على مؤسسات عمومية و أخرى تجمعات محلية. يتعلق الأمر إذن بخلق مكونات تمنحها الدولة صلاحيات ذات قوة إدارية و تحيل إليها إمكانات مالية لتكمل دورها.
فيكون هذا المكون الأخير المتمثل في سلطة محلية إذن و إن كان مكملا لوظيفة الدولة كثيرا ما يبدو كمنافس لها لطبيعة دوره المحلي البحت و خصوصية مطالب الساكنة التي كثيرا ما تتجاهل أو لا تعي في الواقع حتى لا مقدراتها المحلية و لا مدى ما تستطيع الدولة منحها أحيانا.
و تطبيقا للقانون 87-289 الصادر اكتوبر 1987 و الدستور ل 1991 و التحسينات اللاحقة ( لا يسعنا ذكرها كلها هنا) تتجسد شيئا فشيئا مشروعية الإدارات الثلاث على المستوى السياسي لموريتانيا: الإدارة المركزية و الإدارة الجهوية و الإدارة المحلية مبرزة أن اللامركزية بتعريفها كمسلسل للتخطيط للدولة الموحدة فهي تحويل لصلاحيات إدارية و مالية إلى كيانات أو تجمعات محلية باختصار.
و قد انتهجت الدولة الموريتانية هذا التوجه تدريجيا بحيث بدأ بتقليص المسؤوليات الإدارية للدولة المركزية و إن بقيت هي الراعي و المراقب لكل النشاطات المتعلقة بالسلطات المحلية. حظيت هذه العملية باستثمارات كثيرة و كبيرة جاءت تارة من طرف الدولة نفسها و تارة أخرى من طرف الشركاء.
ولا يختلف اثنان على أهمية و نجاعة و ضرورة و حتمية إشراك المواطن بواسطة بوابة اللامركزية كنهج هو الأفضل والأنسب لمن يريد استنهاض همم مواطنيه و توظيفهم التوظيف الأحسن للمشاركة في البناء الوطني و دفعهم إلى تحمل مسؤولياتهم كاملة غير منقوصة أخذا بزمام أمورهم و تمحيصا لما يتعلق بنمو مجتمعاتهم و دوائرهم نظرا لمعرفتهم لأولوياتهم و القدرة على التصدي الواعي لما لا يناسبهم.
2-إرهاصات اللامركزية قبيل و بعيد الاستقلال
يقول انيانك الشيخ التيجان في رسالته للمستر في تخصص “الإدارة و المال العمومي” لسنة 2017-2018 جامعة استراسبورغ،(المدرسة الوطنية للإدارة)، كما تطرقنا إلى ذلك و لو سريعا في التوطئة أن التجربة الإدارية السريعة في اترارزة سنة 1903 ، بداية القرن الماضي، التي قام بها المندوب العام لجزء إفريقيا الغربية الفرنسية (لا، أو، أف بالفرنسية) و المتمثلة في استدعائه القوى المحلية من أمراء و رؤساء قبائل و مجموعتين عليتين من 12 عضوا مختارة من بين الوجهاء للتعاون مع الإدارة الاستعمارية المحتلة وتفويضها القيام محلها بالعمل المنوط بها أصلا هي بداية للامركزية أو ما يشابهها رغم خصوصياتها التي سنتطرق إليها أدناه.
و منذ 1907، و بموجب قرار صادر بتاريخ 23 نوفبر 1912 قسمت فرنسا موريتانيا إلى خمس دوائر ثم عشر تجسد تقسيما (إقليميا) ترابيا و إداريا لموريتانيا. هذا التقسيم سيعززه في 1936 اعتماد فخذ من القبيلة أو فرع منها كوحدة إدارية أولية. يعبر هذا الإصلاح عن إرادة أخذ بعين الاعتبار للواقع سيسيولوجي للساكنة بناء على كون فرع القبيلة يمتد إلى ساكنة واسعة الانتشار (الامتداد) حسب العادة و التقاليد و يرأسه عضو مختار من طرف أعضاء المجموعة، هذا الرئيس هو المعروف عادة بشيخ العامة الذي يعتمده القائد العسكري أما رؤساء القبائل و الأمراء فيعتمدهم و يقرهم و يعينهم الوالي.
كانت إذن الإدارة الاستعمارية تستعين بالقوى التقليدية للبلد و يندرج ذلك في أن الغاية عندها تبرر الوسيلة و ليس بفضل إرادة واضحة المعالم لإشراك الساكنة البتة.
فطبيعة الترحال للموريتانيين في الشمال فرضت على المستعمر التفاوض مع القوى التقليدية لبسط سيطرته. هذه الشراكة هي التي فرضت صلاحيات أكثر للمحليين لمشاركتهم في الإدارة بقوة نسبية.
أما على مستوى الجنوب فالنظام الإداري كان على غرار ما هو متداول لدى الدولة الأم أو المستعمرة أو دول الجوار بحيث هناك ما يمكن تسميته بالمقاطعة و القرية والحي. و كانت المقاطعة تشكل الوحدة الإدارية القاعدية و هي مجموعة من القرى تحت إمرة رئيس معين من طرف الوالي و يتقاضى مقابل ذلك راتبا و من أدواره مراقبة نشاطات رؤساء القرى التابعة لمقاطعته و تنفيذ قرارات الإدارة، تعينه على أداء مهامه لجنة مقاطعية.
وكان رؤساء القرى الذين يرأسون هذه الوحدات مختارين من ظرف لجان إدارية لكل قرية حسب الأعراف و التقاليد و يعتمدوا من طرف الحاكم العسكري المستعمر و هم معترف بهم في الحضر كرؤساء أحياء في المناطق الحضرية التي تشكل بلديات، و يقومون بالمهام الموكلة إلى رؤساء القرى و محاطون بمجالس أحياء.
و على غرار التنظيمات البلدية الموجودة في إفريقيا الغربية الفرنسية ( آ، أو، أف ) و تطبيقا لقرار 14 دجمبر 1920 شكلت بلديات مزدوجة في موريتانيا ( “مكست بالفرنسية”من المحليين و الأجانب) و هي بلديات أطار و كيهيدي و روصو في سنة 1953 ثم بوكى 1955.كان تسيير هذه البلديات منقسم ما بين قائم بالأعمال “ريزيداه بالفرنسية” ممثل للسلطة الاستعمارية و عمدة منتدب معين من طرف الحاكم مدعوما بلجنة بلدية معينة من نفس الحاكم بناء على اقتراح من وجهاء معتمدين من الإداري. و كان للدائرة دورها الاستشاري البحت إلا أنها كبلدية لها ممتلكاتها و ميزانيتها الخاصة.
مع العلم أن هذه الهيئات أو المجموعات أو المؤسسات لا تمثيل لها فعليا لكون هيئاتها القيادية ليست منتخبة و تفتقد مشروعية التمثيل إلا أن ضرورة التعاون ما بين المستعمر و القوى المحلية و صيانة المصالح فرض هذه البنية الإدارية كما ذكرنا سالفا.
و كان عمد هذه المناطق محترمون من طرف الجميع و كان تسيير البلدية مسنودا لأولئك الذين يحظوا محليا بالمشروعية و التقدير كرؤساء القبائل مثلا أو ما يقابلهم.
كان بالفعل لدى العمدة سلطة فعلية إلا أنه كما قلنا سالفا يمثل السلطة التقليدية التي هو منبثق عنها و ممثلها كما هو مختار لتلك الاعتبارات و وكيل لسلطة المستعمر في الآن الواحد.
ما معناه أن مفهوم التنمية المحلية كما نراه اليوم كان غائبا حيث كان العمدة يدافع عن المصلحة العامة بناء على توازن القوى المحلية و التوترات الناتجة عن المصالح الخاصة لكل جماعة في المشهد إذ لم تعطي هذه التجربة نتائج تذكر فعلا لصالح الساكنة من ناحية التكوين السياسي و الديمقراطي بصفة فعلية.
جاء الاستقلال 1960 و الساكنة في ظروف قاسية من انعدام البنى التحتية و الكادر البشري القادر على تسيير شؤون البلد بسب الهاجس الأمني الذي بنيت عليه إدارة المستعمر و ما فتيء يسير به البلد و كذا وقع العادات الراسخة البدوية للترحال للساكنة و رفضها للتقري و السلطة المركزية.
لم يكترث المستعمر إذن بتكوين المحليين على غرار إخوتهم في مناطق أخرى بل اكتفى أساسا بهذه العلاقة التي تصون له مصالحه بدون كثير عناء.
فكانت السلطة الجديدة ميالة إلى تقليد المستعمر لبسط سيطرتها على البلاد و نتيجة لطبيعة الساكنة و تركة المستعمر( بغية شخصنة السلطة) لكن فشلها في اللامركزية المتبعة من طرف المستعمر قامت الجمهورية الحديثة بالإصلاح الإداري الأول لها سنة 1968 المطبق للقانون رقم 68-242 بتاريخ 30 يوليو 1968.
كان في موريتانيا ثلاث نماذج من البلديات هي:
-البلديات الحضرية: و هي خمس بلديات: ( و من بين هذه البلديات البلديات الأربع قبل الاستقلال السالفة الذكر التي أضيفت إليها نواكشوط العاصمة الفتية)، فهي إذن نواكشوط، أطار، بوكى، روصو، و كيهيدي. وكان المعيار الأساسي للانتماء لهذا الصنف هو الكثافة السكانية بحيث تكون البلدية تتجاوز 1500 نسمة و لها من الموارد الكافية لتغطية ميزانيتها الخاصة.
لهذه البلديات جهاز تشريعي و هو المجلس البلدي المنتخب بواسطة الاقتراع العام المباشر و جهاز تنفيذي مكون من عمدة و نوابه معين أو منتخب من طرف المجلس البلدي.
البلدية هنا هي تجمع محلي له شخصيته القانونية، و للبلدية ميزانيتها الخاصة، تقوم بتسيير شؤون الساكنة لكنها ليست لها صلاحياتها الخاصة مما حد كثيرا من التأثير الإيجابي للامركزية و رغم أن العمدة منتخب إلا أن له علاقات مع الإدارة أقرب هي للتبعية من الشراكة و التعاون.
-البلديات الريفية: عددها ثلاثة و عشرون و هي في الواقع تتناسب مع الحدود الترابية للتقسيم الإداري تحت الاستعمار. لها شخصيتها القانونية و مجلسها البلدي منتحب انتخابا عاما إلا أن الهيأة التنفيذية معينة من طرف النظام المركزي.
الغريب في الأمر أن هذه البلديات الريفية تحظى بصلاحيات خاصة أهم و أوسع من البلديات الحضرية لكن المفارقة هي أن عمدها معينين من طرف النظام ما معناه أنه هو من يسيرها بواسطة الوكيل (أي) العمدة الذي عين لتلك المهمة.
كما كانت هذه البلديات مسرحا للتناقضات و المواجهات القبلية والصراعات على السلطة المحتدمة بين الرؤساء التقليديين للقبائل مما دفع أحيانا إلى حل العديد من المجالس البلدية (حضرية كانت أم ريفية) على غرار بور أتين أي انواذيبو، لعيون و كذا شنقيط و تنبدغة أما بلديات سيلبابي و بوكى و مقامة و بومديد فنظرا لعجزها عن تشكيل لوائح مستشاريها فقد وضعت تحت الرعاية أو التفويض الخاص للدولة.
-البلديات النموذجية: ثلاث بلديات حظيت بهذه الحالة و هي لعيون العتروس و بور أتين أي انواذيبو و افور قورو أي افديريك و يرجع وجودها أساسا إلى المشاكل و التناقضات لدى الساكنة مما سبب وضعها تحت هذه اليافطة. لهذه البلديات شخصيتها القانونية المعترف بها و ميزانيتها و ممتلكاتها و صلاحيات البلديات الحضرية لكنها تسير من طرف عمدة معين من طرف الإدارة المركزية مما يعني الحضور القوي أيضا للدولة في تسيير البلدية.
و إن كان يحسب هذا النظام تطبيقا للامركزية حيث أن بلدياته تحظى بالشخصية القانونية و تختار مستشاريها بواسطة الاقتراع إلا أن العلاقة ما بين الدولة المركزية و البلدية تبقى قوية لتكون البلدية أقرب هي إلى ممثل للجهاز المركزي من هي ممثلة لمصالح محلية.
كما أن التمثيل المفرط للقوى التقليدية التي يمليها توازن هذه الأخيرة يعرض البلديات إلى أن تكون محل صراعات محتدمة دائمة في الوقت الذي تواجه نفس البلديات مشاكل مالية قوية يسبب اختلالات ترغم الدولة على اللجوء إلى جعلها تحت الرعاية أو التفويض الخاص للدولة على أساس نظام تعيين سلطة البلدية من طرف السلطة الإدارية.
كانت إذن هذه التحديات و هذا الواقع المرير سببا في فشل تجربة البلديات مما جر النظام إلى تبني مبدأ خلق الولايات ليأتي قانون 68-242 بتاريخ 1968 و حل هذه البلديات بجميع أصنافها.
3-الرجوع إلى تجربة البلديات، النجاحات و الإخفاقات
من المعلوم أن حرص الدولة المركزية على رقابة قطاعاتها و إحكام السلطة عليها أملى ضرورة إحياء البلديات و إصدار القانون المتعلق بها بدءا بإصلاح 1986 الذي رسمه خطاب رئيس الجمهورية آنذاك يوم 12/12/1985
جاء ذلك التوجه بصفة مفاجئة حيث لم يحظى لا بالتنظير المناسب و لا التشاور المطلوب لهكذا عملية. و في إطار ما سمي بالمسلسل الديمقراطي انطلقت سياسة اللامركزية عام 1986 بموجب المقرر رقم 130-086 بتاريخ 13 أغسطس 1986بإنشاء تدريجي ل 216 بلدية موزعة على المساحة الترابية للوطن. و حصل عن القانون رقم 87-289 بتاريخ 20 اكتوبر 1987 إنشاء 54 بلدية على أرض المقاطعات الموجودة آنذاك و 163 بلدية ريفية.
هذه البلديات تقدم من أهم الخدمات لصالح ساكنتها حسب طبيعتها و أهميتها انطلاقا من القانون المنظم لها: بناء الطرق المحلية و الصحة القاعدية و الماء و الكهرباء (العمومي) و النظافة أساسا.
و لهذه البلديات شخصيتها القانونية و حريتها المالية إلا أن حالتها متفاوتة حسب اختلاف ساكنتها و قدراتها الاقتصادية.
سيقضي بطبيعة الحال هذا الإصلاح على الولاية كدائرة ترابية توجه سيكمله القانون رقم 90-002 بتاريخ 30 يناير 1990 الذي ستأخذ فيه اللامركزية مدى أوسع تأثيرا بمطالب المنظمات الدولية و حرية الاقتصاد و المال.
و بعد نكوص الدولة عن تجربتها للشفافية لسنة 2001 التي كانت فرصة لاعتلاء العديد من مرشحي المعارضة وظائف انتخابية حتى اكتسحت مناطق كنواكشوط العاصمة ستشكل الفترة الانتقالية (2005-2007) فترة تتويج لهذا التوجه حسب الكثيرين من المحللين حيث كانت هي الفترة التي أجريت فيها انتخابات بلدية و تشريعية و رئاسية تعتبر من أحسن ما قيم به في البلاد منذ بداية المسلسل و أقربها للشفافية.
ولد ذلك آمالا و طموحات أوصلت إلى خلق وزارة مختصة سميت بوزارة اللامركزية و الاستصلاح الترابي أوكل إليها بإعداد كتاب أبيض حول اللامركزية يشخص تجربة البلديات و يقترح إصلاحات من شأنها تصحيح الاختلالات و المضي في نهج التجارب الناجحة في الميدان. صاحب ذلك تطور ملحوظ في التحويلات المالية من طرف الدولة تجاه البلديات لمساعدتهم على القيام بمهامهم الجديدة إلا أن هذا التوجه انقطع بانقلاب 2008 الذي حل الوزارة ليتواصل بعد ذلك قولا على الأقل بعد العودة إلى النظام الدستوري 2009 و يعطي دفعا جديدا توج بإعلان مجلس الوزراء لسياسة اللامركزية و التنمية المحلية بتاريخ 22 إبريل 2010 لتنشر وزارة الداخلية و اللامركزية بتسميتها الجديدة خطتها العملية الخماسية ل 2011-2015 كدعم لتنفيذ اللامركزية مدعوما هو الآخر ببرامج عدة من طرف الشركاء ك CSLP ( كادر استراتيجيك د لوت كونتر لا بوفرتى) و بيركلس لتأطير و دعم اليلديات على مستوى الداخل).PERICLES
رسمت انتخابات 2001 وجها جديدا لنواكشوط العاصمة حيث أصبحت ولاية من تسع بلديات بعد أن كانت بلدية واحدة لمقاطعات تسع و نشأت بموجب ذلك مجموعة نواكشوط الحضرية، كان لها الفضل في التطور المهم و الملحوظ في أداء البلديات بولوج المسؤوليات شبابا و كوادر أبوا إلا أن يبرهنوا على اختلافهم مع من سبقوهم و قدرتهم على تسيير شؤون بلدياتهم و التأقلم الناجع مع منتخبيهم مما سيؤدي إلى صدام لا هوادة فيه بينهم و النظام القائم الذي رأى في ذلك تهديدا لمصالحه بما كرس من وعي للشارع ربما يسبب إدارة المنتخبين ظهورهم لمرشحي النظام فأقال عمدا و عرقل سير بلديات أخرى (عرفات، انقلاب كيهيدي (ترأس جيوه للبلدية ) و تواصل النهج لتسن قوانين أخرى تقوض سير البلديات و تتيح لكل من هب و دب قلب الأمور بالسماح للمتربصين بالوظائف و السير في كنف النظام باعتلاء المناصب بانقلابات أوصلت أشخاصا ما حلموا قط بذلك لا لشيء إلا أن النظام أراد تضعيف ما يرى فيهم معارضته و لا يريد لهم البقاء ( انقلاب الميناء، النعمة، مدبوكو، انواذيبو إلخ). كل هذا كان نتيجة تكييف من السلطة للتمكن من استيلاء رعيتها على السلطة و خلق المشاكل لمعارضيها عند عجزها في عزلهم.
بعض إيجابيات اللامركزية لا الحصر:
هناك إيجابيات تذكر فتشكر فعلا و هي الأسس و الدعامة التي ينبغي البناء عليها حتى نرسخ مفهوم اللامركزية و نستفيد منه أكثر ما يمكن: فقد حصل من بين أمور أخرى:
-توعية المواطن الموريتاني و حتى البدوي و لو نسبيا على أهمية مشاركته في البناء الوطني،
-التفاعل مع التوجه للامركزية و الإنجازات الحاصلة عنها،
-خلق نخبة جديدة تعين على تقريب الإدارة من المواطن و تخفف الوطأة على السلطة المركزية،
-خلق جو منافسة انتخابية إيجابية و إن كانت خجولة في الريف أساسا و المناطق التي كانت تتجذر فيها سلطة القبيلة و النفوذ التقليدي و المال،
-تشييد مرافق عمومية ما كان لها أن توجد و لا تصان لولا وجود البلديات و سهرها على ديمومتها،
-إيصال النفع إلى المواطن سواء تعلق الأمر بالخدمات الإدارية أ و الأمنية أو الاجتماعية (مدارس، صحة، الج) من بين أمور أخرى تشكل أساسيات للمواطن.
أما السلبيات: فلا يخفى على أحد كثرتها و جسامتها و نذكر من بينها أن ولوج هذه الوظائف
-شجع بعض التصرفات و العادات السيئة في التسيير و ألبس الديمقراطية ممارسات سلبية. فالمنصب الانتخابي أصبح فرصة للتكسب الغير مشروع و النفوذ المفرط لكبح جماح الخصم و حرمانه من حقوقه و إرساء الزبونية و المحسوبية و حتى ممارسات أخطر بإعانتها المتربع على الكرسي استغلال النفوذ المستمد من المقعد ضد خصومه في شتى المجالات، إلخ
-جهل المنتخبين لحقوقهم و واجباتهم ميع العلاقة ما بينهم و الوصاية و الإدارة و الأمن بحيث لم يعودوا إلا تبعا لها أعمى، ما بلغوا الفطام فأحرى سن الرشد لتفعل بهم ما شاءت و ترفض لهم ما لا يطابق هوى الشخص المسؤول إداريا:
*فللوزير أو الوالي أو الحاكم و كذا تفرعات الإدارة نصيبهم من كل شيء و إن لم يبوب على ذلك في مداولات المجلس البلدي في ميزانية البلدية،
*يترأس المحصل البلدي دورات البلدية و كأنه المسؤول الأول عن العملية لجهل المنتخبين للنصوص المنظمة للبلدية،
*يعرقل نشاط البلدية بالمتاجرة بممتلكاتها و عرقلة تسديد المستحقات لشركائها ما لم يجد في ذلك ربحا و دخلا خاصا له،
-استهداف المنتخبين المعارضين حتى لا يستطيعوا تنفيذ برامجهم في الوقت الذي يصول فيه و يجول منتخبو الموالاة بالإخلال بالمحاسبة المعهودة، الخ:
أذكر هنا
يسمح للموالي بفتح صندوق داخلي يستطيع بموجبه استغلال المداخل لتغطية مشترياته و دفع رواتب موظفيه و عماله و كذا فتح حسابات بنكية تسهل عليه المعاملات مع الآخرين في الوقت الذي يرفض هذا جملة و تفصيلا لنظرائه في المعارضة أو حتى ممن في الأغلبية و لم يقبل توظيفه لأجنداتها ،
أذكر تجربة المحصل الذي يرفض أوامر العمدة لأن صندوقه مشترك و يستغل دخل البلدية لأغراض ملتوية و لا ناه و لا منته، له نسب مئوية من كل فاتورة أو صفقة إن أريد لها أن تسدد و هذا على مرأى و مسمع من القاصي و الداني، القوي و الضعيف، الوصاية و مفتشيات الدولة. و أخشى ما أخشاه أن هؤلاء المحصلون هم من يوكل إلى أكثرهم التفتيش على مستوى المرافق (ذكر مفتش يعد ما بقي من أوراق من رام لفوات الوقت)
-عدم الرضا بمكانة العمدة و هو ضابط شرطة قضائية و الكل يعامله بتعال و فوقية غريبة (ذكر إهانة لادجيدان و ملازم لي بعد انقلاب 2003)
حتى الوزير الوصي يتغاضى عن تبديد ممتلكات البلدية التي تبذر من طرف المحاسب و غيره ومعاناة العمد من تسفيه و سوء تعامل تجاههم،
-فالبلدية أرضية و فرصة لتبييض الأموال أيضا تغطية للنشاطات المشبوهة لسرقة المال العام و تجار المخدرات و المحظورات،
-خلق النفوذ السهل أو تكريسه في أيدي أهل المكانات الاجتماعية التقليدية و المال السياسي بحيث لا يتربع عادة على كرسي المنصب السياسي الانتخابي إلا الحائز على إحداهما بفرض نفسه مترشحا لا لشيء إلا لأنه فلان بن فلان أو وزيرا أو وجيها خلقته ظروف كذا أو كذا و بعد حرمان البلد ممن له طموح و برنامج لتغيير وجه الدائرة إلى الأحسن بخبراته و تضحياته و مكوثه مع الساكنة تراه هو يتوارى عن الأنظار فور انتهاء الحملة إن كان حضرها أصلا تاركا في أيدي الابن أو العم أو الخال أو أحد حاشيته تسيير المرفق و كأنه تركة ورثها عن أبويه و هكذا تكون المسؤولية حكرا على من يريد بها الأبهة و فرص اللقاء في العاصمة أو المحافل مع هذا أو ذاك،
-الرفض البات لقيام البلديات بدورها و تسخير الإمكانات اللازمة لذلك لإشباع رغبات متربعين في السلطة ( صفقة النظافة التي بددت المال والآمال و المآل : ففي الميناء كان باستطاعتنا اقتناء جرافات و سيارات نقل بثمن بخس دينا على عدة سنوات رفضت بعد أن قبلت الوصاية المداولة لا لشيء إلا لأن مسؤولين في الدولة يحضرون لصفقة “قرن” مشبوهة ستدر عليهم بملايين كرشوة و تكون صفقة (بيتزورنو) و ما شابهها بتحييد البلديات عن دورها الأساسي في النظافة بإشراك غير قانوني للحكام و الولاة و وزارة الداخلية في التسيير الفعلي للبلديات بغية اقتطاع مبالغ مالية كبيرة من مخصصات البلديات من الصندوق الجهوي و غيره ليكون للوزير و طاقمه نصيبهم و الوالي و طاقمه و الحاكم و طاقمه و هلم جر و يبقى الحبل على القارب،
-كما أن مأموريتي انتهت و بلدية الميناء و لكصر تتسابقان في كل شهر للجباية على مناطق تلكأت الإدارة في كل وقت في تحديد الحدود و ضبطها ما بين البلديتين،
-انتزعت الإدارة مساحات ومرافق البلدية تجاوبا مع زبونية فلان أو لمصالح شخصية (دار الذبح في الميناء، مقر الضرائب)،
-استغلال النفوذ لعرقلة نشاط البلدية. كان باستطاعة الإدارة توقيف آليات البلدية لا لشيء إلا لأن المسؤول لا يرضى للعمدة بالقيام بهذا أو ذاك،
– لم تكن إذن البلديات في أكثرها إلا وكلات للإدارة المركزية وتبعا للمسؤولين الإداريين و العمد وكلاء وغيبت في أكثرها عن دورها في تقريب الإدارة من المواطن في معناها الإداري و الاقتصادي التنموي و التوعوي والتعبوي أصلا.
4-المجالس الجهوية: (وهل مشروعية الطموح تكفي للتغاضي عن الواقع؟)
على أنقاض ما سلف ذكره جاء قرار إنشاء الجهات ليكون من الناحية السياسية حينها بديلا لمجلس الشيوخ في صراع لي الأذرع ما بين السلطة القائمة آنذاك و الشيوخ الذين حاولوا تقويض التوجه الذي أراده الرئيس.
فلا هي جاءت بعد دراسة متأنية و لا تتويجا لنجاحات للبلديات و لا مراعاة لطموحات النخبة السياسية بل كان المراد منها امتصاص ذلك الهيجان و توفير البديل لذوي الطموحات من موالين للنظام في اعتلاء مناصب انتخابية كبيرة تضاهي مجلس الشيوخ وتمكن من تجاوز أزمة الاختناق المسببة للاحتقان الذي سببه حله.
لقد أريد لها إذن أن تكون نتيجة لحوار 2015-2016 رغم ما تخللها من شوائب و نواقص لتصبح الجهات حقيقة أقرها استفتاء وطني بموجب تعديلات دستورية بقانون رقم 021-2017 بتاريخ 15 أغسطس 2017 المعدل لبعض ترتيبات دستور 20 يوليو 1991 و نصوصه المعدلة لننتظر 2018 حتى يصدر القانون المنظم لها ثم المرسوم المطبق لهذه القوانين سنتين بعد انتخاب المجالس أي 2019مما يوحي أنه التخبط بعينه و الارتجالية اللذين شابا هذه القرارات و ذلك التوجه إلا أنه من المستحيل تصور حل جميع المشاكل التي مازالت البلديات عاجزة عن حلها بإنشاء الجهات فقط. بل سنقع في أخطاء ما فتئنا نذكرها و نشجبها بدون أن نضع لها حلا بتوريث الفشل في المسؤوليات إلى جهات أخرى دون أن نغير في الأساليب متناسين أنه من أجل نجاح الجهات لا بد من الاستفادة من تجربة البلديات و العمل على عدم تكرار أخطائها و ما سبب عجزها و فشلها.
فلا بد إذن من أن نحذر من محاولة أخذ الجهات مكان الدولة أو أخذ محل البلديات كما أنها لا بد لها من أن تكون مزودة بالإمكانيات الكافية التي تتلاءم مع صلاحياتها و تضمن لها القيام بمسؤولياتها التي يخولها القانون إلا أن التشابك في الصلاحيات المحتمل في الوقت الذي كان على الجهة أن تكون امتدادا طبيعيا للبلديات من شأنه خلق اختلالات أخرى و عرقلة العمل على مستوى الهيئتين مما يعرقل أكثر مما يسهل ويبدد الأموال و الجهود أكثر مما يرشدها و يميع المنصب الانتخابي أكثر مما يلبسه لبوس المسؤولية و الانضباط و السهر على المصالح المحلية و العامة من بين واجبات و طموحات أخرى هي التي ينبغي أن تنتظر من هكذا مؤسسات دولة.
5-خلاصة: و لأن شرط النهايات تصحيح البدايات،
فكما قلنا في التوطئة فإن اللامركزية خيار تفرضه المرحلة كما أنه هو أفضل و أقرب استراتيجية لتقريب المواطن من مراكز القرار و توظيفه من أجل القيام بمسؤولياته تجاه الوطن و محل سكنه و هي الطريق الأنجع لتوعيته على ما له و ما عليه مراعاة لما يتيح له القانون و مقدرات الدولة إلا أن المسار في موريتانيا مازال في تخبط مميت لما يعانيه من أخذ و رد في العملية نفسها يتجسد تارة في رفض أو امتناع ممثلي الإدارة التقليدية عن التخلي عن بعض الصلاحيات و تلك الأبهة التي كانت هي مصدر شخصيتهم و قوتهم والتسويف لدور البلديات و توظيفها لما لم تنشأ من أجله أصلا و الجهل المحدق لمن يتولون مسؤوليات تسيير هذه المنشآت غالبا.
فالحال لا يساعد على التطور الإيجابي لهذه المؤسسات لطبيعة البنية الاجتماعية الموريتانية و العقلية السائدة و لا حتى تمشيا مع المنهاج سياسيا كان أو اقتصاديا بحيث تفتقر البلديات و سيكون هو حال الجهات إلى سلطة تمكنها من تحقيق نشاطاتها المحلية كما أنها تفتقر إلى المصادر البشرية و الإمكانات المالية لتنفيذ سياساتها المحلية.
مجموع هذه التحديات و غيره يشكل سببا في تقويض عمل البلديات و الجهات لاحقا لا محالة إن لم يؤخذ بالتدابير المناسبة لتجاوزه . و يمكن أن يظهر ذلك على ثلاث مستويات كمثال لا الحصر:
-عدم التناسق و الانسجام مع التداخل كثيرا ما ما بين الصلاحيات الراجعة للدولة أو القطاع المركزي و البلديات أو حتى الجهات مؤخرا،
-تحويل الصلاحيات الناقص و المقوض لنشاط البلديات و الجهات أحيانا أخرى بفعل غيرة ممثلو السلطة المركزية على الاستمرار فيما كانوا عليه،
-غياب مجموعات أو نقابات أو تجمعات محلية تشاركية تضفي على البلديات و الجهات القوة اللازمة للقيام بسياسات تنموية لصالح أكثر من بلدية أو جهة و بإمكانها الدفاع عن مصالحها إن تطلب الأمر،
إلخ…
و عليه نكون على غرار ما تكرسه المقولة “حطب افلانه اقلبها عادت اتزيدو” لا أكثر.
أشكركم جزيل الشكر على الإصغاء و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.