النشاطاتدراسات

تأصيل ثقافة التسامح في السيرة النبوية “دراسة نظرية وتطبيقية” إعداد الدكتور/ التاه بن محمدن بن اجمد

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبيه الكريم

تأصيل ثقافة التسامح في السيرة النبوية

“دراسة نظرية وتطبيقية”

إعداد الدكتور/ التاه بن محمدن بن اجمد

المقدمة

أسست السنة النبوية نظاما دينيا وحياتيا منفتحا، يأخذ بالمسلم إلى أعلى وأرقى الفضائل، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، والتي من أولها السماحة والتسامح، حيث كانت ميزة الإسلام الأساسية السماحة، وهي صفة واقعية تجلت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده؛ لذا فإن هذا البحث سيروم تأصيل ثقافة التسامح في السيرة النبوية، وذلك من خلال عرض دروس نظرية من السماحة وأخرى تطبيقية عملية لمصدر التسامح محمد -صلى الله عليه وسلم- فالتسامح بدأ في التاريخ الإنساني ببعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد بلغ مداه، ووصل إلى مستوى متميز، لا نظير له خارج الإسلام.

فقد تجذرت قيمة التسامح وتأصلت قولا وعملا في سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فهناك عدد كبير من الأحاديث النبوية يدعو إلى التسامح ويحض عليه، ويرغب في سلوك طريقه، كما أن هناك أحاديث عملية وأعمال نبوية تجسد التسامح وتنزل فكرته على الواقع، فقد بينت حلمه -صلى الله عليه وسلم- وصبره على الأذى في النفس والمال والولد، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام، والصفح والإغضاء والدفع بالتي هي أحسن.

كما دلت سيرته -صلى الله عليه وسلم- على تسامحه وتعامله مع الآخر المخالف، تعاملا تنوعت أشكاله لكن اتحدت أهدافه ومراميه، فهو كان يؤمن بوحدة البشر والتعددية والتشاركية، ولذا نجده خاطب وراسل ملوك الدول وأمراءها، وأذن لأصحابه بالهجرة إلى أرض الحبشة (دولة كافرة) لأن فيها ملكا لا يظلم الناس عنده؛ ونزل بعد العودة من الطائف، في رحلة الشدة الشديدة، بجوار المطعم بن عدي.

وقد أعطت أقواله وأفعاله –صلى الله عليه وسلم- الدالة على التسامح زادا فكريا للمسلمين تحول إلى ممارسة عملية، تجسدت على أرض الواقع من خلال معاملاتهم وسلوكهم مع الموافق والمخالف، وشكلت فلسفة التسامح التي صنعت النموذج الأمثل في التعامل مع الإنسان وضمان حقوقه وصيانتها.

فقد أيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- الضمير الإنساني في الأفراد والجماعات، إلى الإيمان بالمساواة في الحقوق والواجبات الإنسانية بين أفراد البشر كافة، كحقيقة واقعة لا سبيل إلى إنكارها، وكحقيقة نابعة من وشيجة الإخاء الحقيقي الذي ينميه أصل واحد، كانت منه السلائل الإنسانية في نظام جنسي ولادي موحد.

كما دعا إلى احترام الإنسان، وتكريم ذاته، والحرص على تقدير مشاعره، واعتبر الاعتداء عليه اعتداء على المجتمع كله، والرعاية له رعاية للمجتمع كله، وتقرير الكرامة الإنسانية للفرد يتحقق أيا كان الشخص، رجلا أو امرأة، حاكما أو محكوما، فهو حق ثابت لكل إنسان، من غير نظر إلى لون أو جنس أو دين، حتى اللقيط في الطرقات ونحوه، يجب التقاطه احتراما لذاته وشخصيته.

لذلك فإني سأسلك طريق البحث لأصل للتسامح في السيرة النبوية، وأبين جوانبه النظرية والتطبيقية، ليكون عونا لمن أراد التأسي بمن هو أهل للتأسي، وسيكون ذلك وفق الخطة الآتية:

المبحث الأول: جذور التسامح في السنة النبوية

المطلب الأول: منظومة القيم الإسلامية المؤسسة للتسامح في السنة النبوية

المطلب الثاني: أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤسسة للتسامح

المبحث الثاني: مظاهر التسامح وتجلياته في السنة النبوية

المطلب الأول: الأخوة الإنسانية وتكريم الإنسان

المطلب الثاني: أسس العلاقة مع الآخر في السنة النبوية

الخاتمة: وقد ضمنتها أهم الملاحظات التي توصلت إليها

 

 

المبحث الأول: جذور التسامح في السنة النبوية

تتجذر قيمة التسامح وتتأصل قولا وعملا في سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فهناك عدد كبير من الأحاديث النبوية يدعو إلى التسامح ويحض عليه، ويرغب في سلوك طريقه، كما أن هناك أحاديث عملية وأعمال نبوية تجسد التسامح وتنزل فكرته على الواقع، وهنا سأسلط الضوء على جذور التسامح قولا وعملا وتطبيقا وتنزيلا، وذلك من خلال المطلبين الآتيين:

المطلب الأول: منظومة القيم الإسلامية المؤسسة للتسامح في السنة النبوية

تشكل القيم المحرك الأساس للإنسان، والعامل الرئيس في تحديد أهدافه وغاياته، والمحافظ على قوة سيره وانتظامه، والتاريخ البشري تاريخ قيم تزهر وتذبل، وحين تخور القيم تلتبس المسالك وتتيه القافلة، لذلك جاءت الديانات السماوية كلها -والإسلام على رأسها- لترفع راية القيم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين أن أول ما يوضع في الميزان حسن الخلق، وأن الإنسان يبلغ به درجة الصائم القائم، يصدق هذا على كل فرد مسلم، وعلى كل مجتمع.

فعن أبي الدرداء –رضي الله عنه- قال: سمعت النبي –صلى الله  عليه وسلم- يقول: “ما من شيئ يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة.([1]).

وجذور التسامح وثمراته تتمثل في الصفات الخُلقية، مثل الرحمة والعفو والصبر، التي حض عليها -صلى الله عليه وسلم- وهنا سنتوقف عند كلمات وردت في الأحاديث النبوية أسست لثقافة التسامح وأصلت لها تأصيلا، وهذه الكلمات من قبيل الإحسان، والعفو، والصفح، وكظم الغيظ، والرفق، والرحمة، والسماحة، والمحبة، فما ذا عنها؟

فأما الإحسان فهو مصدر أحسن إذا أتى بالحسن؛ والمراد به هنا: تحسين الأعمال المشروعة، والإنعام على الغير؛ وهو أعم نفعا، وأكثر فائدة؛ لأن الإحسان في الفعل يعود منه نفع عليه وعلى غيره، فحق على من شرع في شيئ من أعمال البر أن يأتي به على غاية كماله، ويحافظ على آدابه المصححة والمكملة له، فالإحسان الواجب: أن يأتي بما وجب عليه من فعل أو تركٍ مستوفيا لشروطه، والمندوب: أن يأتي بمكملات الواجب وبالمندوب مع معتبراته ومكملاته([2]).

وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن الله كتب الإحسان على كل شيئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته”([3]).

فالحديث هنا أمر بالرفق واللطف، فقوله: “إن الله كتب الإحسان على كل شيئ” أي في كل شيء، ولم يقل: إلى كل شيء، بل قال: على كل شيء، يعني أن الإحسان ليس خاصا بشيء معين من الحياة، بل هو في جميع الحياة([4]).

قال ابن حجر الهيتمي: (على) أي: في أو إلى (كل شيءٍ) ويُستثنى منه القديم سبحانه وتعالى؛ فإنه لا حاجة به إلى إحسان أحد؛ لاستغنائه بذاته عما سواه، والأعراض والجمادات لا يتأتَّى الإحسان إليها، فبقي النبات والحيوان، آدميا وغيره، والملائكة، والإحسان إليهم بإحسان عشرتهم، بألا يفعل بحضرة الحفظة ما يكرهون، ولا يأكل ما يتأذون بريحه؛ لتأذيهم بما يتأذى به بنو آدم؛ كما في الحديث، والجنُّ بنحو نيتهم بالسلام من الصلاة؛ فإنه يسن للمصلي أن ينوي به من على يمينه أو يساره من ملائكة ومؤمني إنس وجن. وقيل: يستثنى من الإحسان المؤذي من نحو الحشرات والسباع؛ فلا حظ لها في الإحسان، وليس كذلك؛ إذ جواز قتلها لا ينافي الإحسان إليها بإحسان القتلة، وبالإطعام إن لم يجب قتلها فورا؛ فقد قال: -صلى اللَّه عليه وسلم- “في كل كبد رطبة أجر”([5]).

وهذا الحديث فيه دليل على أن الإحسان واجب على كل شيء، فيجب الإحسان على البشر والحجر والحيوان وكل عوالم هذا الكون الفسيح.

وأما العفو والصفح فهما من الألفاظ الدالة على التسامح، ومعناهما التجاوز عن الإساءة، وعدم المعاملة بالمثل، وقد مدح هذا الخلق في أحاديث كثيرة، منها قوله: -صلى الله عليه وسلم- “ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله([6]).

قال القاضي عياض: “وقوله: “ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا” فيه وجهان: أحدهما: ظاهره أن من عرف بالصفح والعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عزه. الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزته هناك”([7]).

ومن السنة العملية الدالة على هذا الخلق والمطبقة، ما رواه جابر –رضي الله عنه-قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي -صلى الله عليه وسلم- فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة، فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين، فاخترط سيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله، قال جابر: فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا، فجئنا فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله: -صلى الله عليه وسلم- “إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس”([8]).

ثم لم يعاتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ابن حجر: وفي الحديث فرط شجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوة يقينه وصبره على الأذى، وحلمه عن الجهال”([9]).

وأما كظم الغيظ: فهو حبسه بحيث لا يظهره فيحصل منه الغضب، بل يتحمل ويصبر ويخفي ذلك الشيء فلا يظهره؛ لأن عدم كظمه تترتب عليه أمور خطيرة وغير محمودة العاقبة، وقد وعد الله جل وعلا الكاظين الغيظ بالجنة، حيث قال جل من قائل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران: 133-134. كما ورد في حديث معاذ بن أنس -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: “من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره في أي الحور شاء”([10]).

وهذا يدل على فضل من كظم غيظا، وذلك أنه يدعى على رؤوس الخلائق، فيعرفون حصول هذه الخصلة الطيبة التي بها حصل هذا الأمر الطيب، وهو كونه يختار من الحور العين ما شاء؛ إكراما وجزاءا له على كظم غيظه، وكظم الغيظ تحصل معه السلامة من الشرور التي تنشأ عن الغضب، وهي أمور محذورة، وكظم الغيظ يحول ويمنع دون الوقوع في تلك الأمور المحذورة، فهذا دال على فضل من كظم غيظا([11]).

وأما  الرفق فهو أن يكون الإنسان رفيقا بغيره، والرفق عكسه العنف، والعنف: الشدة، فالعنيف يشدد على الغير ويصل إلى أمره بشدة وصعوبة، ويصل إليه بالطريقة العسرة، فيرفع السوط، ويتعامل بالمعاملة العنيفة الغليظة القاسية، فإذا كان الأمر ممكن أن نصل إليه بطريقين: طريق فيه الرفق، وطريق فيه العنف، والنتيجة واحدة، فطريق الرفق هو الذي فيه الثواب العظيم، والذي يدل على خيرية صاحبه، وطريق العنف وإن كان في النهاية سيصل إلى النتيجة نفسها لكن صاحبه أقل ثوابا، ولا يبعد أن يحرم من الثواب؛ لأن الإنسان الذي فيه العنف قد يأتي ليأمر بالمعروف وإذا به يأمر بطريقة منكرة، فأمره يكون معروفا ولكن فعله يكون منكرا، فيكون أمر بالمعروف بطريقة منفرة، وقد نهانا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التنفير، وفي الحديث كذلك “من أمر بمعروف  فليكن أمره  ذلك بمعروف” وفي حديث آخر: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)([12]).

فالله الخالق العظيم بجلاله سبحانه يرفق بعباده، فمن صفات الله سبحانه وتعالى: صفة الرفق، وصفة الحلم، فإنه حليم ورفيق وصبور سبحانه، وأمر العباد أن تكون هذه هي أخلاقهم: خلق الرفق، وخلق الحلم، وخلق الصبر.

وأما الرحمة فهي العطف والرأفة والإشفاق، ولذلك كانت من صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- قال جل من قائل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} التوبة: 128. ولذا كانت أمته أمة مرحومة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- ما يرحم إلا من رحمة الله([13])، قال: -صلى الله عليه وسلم- “أيها  الناس إنما أنا رحمة مهداة”([14]). فقوله: “إنما أنا رحمة” أي ذو رحمة، عبر عنه بها مبالغة؛ أي رحم الله عباده بإيجادي، “مهداة” بضم الميم؛ أي أهداني لعباده؛ لأدلهم على النجاة وأجنبهم مسالك الهلاك، فمن قبِل رحمة الله وهديته فاز وأفلح، ومن ردها خاب وخسر، وقد ثبت أنه رحمة حتى للكافرين، فإنهم لا يعذبون وهو بين أظهرهم، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ (الأنفال: 33)([15]).

وأما السماحة فهي الجود والسهولة، قال: -صلى الله عليه وسلم- “رحم الله عبدا سمحا إذا باع وإذا اشترى، سمحا إذا اقتضى، سمحا إذا قضى”([16]). فقوله: “سمحا” -بفتح فسكون- جوادا أو متساهلا غير عسير فِي الأمور، وهذا صفة مشبهة تدل على الثبوت، ولذلك كرره فيما يأتي “سمحا إِذا باع وإِذا اشْترى، سمحا إذا اقتضى، سمحا إِذا قضى” أي وفي ما عليه “سمحا إِذا اقْتضى” أَي طلب قَضاء حقه، ومقصود الحديث الحث على المسامحة في المعاملة وترك المشاحة، فيتأكد الاعتناء بذلك رجاء للفوز([17]).

ووصف -صلى الله عليه وسلم- الإسلام بالسماحة والوسع والسهولة، قال: “أحب الأديان إلى الله الحنيفية، قيل: وما الحنيفية؟ قال: السمحة، قال: الإسلام الواسع”. ([18]).

وأما المحبة فقد دعا -صلى الله علية وسلم- إلى إشاعتها بين الناس، قال: -صلى الله عليه وسلم- “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”([19]). قال الحافظ ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: إن الأخوة الواردة في هذا الحديث تشمل الأخوة الإنسانية([20]).

وقال ابن بطال في معنى الحديث: “لا يؤمن أحدكم الإيمان التام، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وقال أبو الزناد: ظاهره التساوي وحقيقته التفضيل؛ لأن الإنسان يحب أن يكون أفضل الناس، فإذا أحب لأخيه مثله، فقد دخل هو في جملة المفضولين، وقال بعض الناس: المراد بهذا الحديث كف الأذى والمكروه عن الناس، ويشبه معناه قول الأحنف بن قيس، قال: كنت إذا كرهت شيئا من غيري لم أفعل بأحد مثله”([21]).

 

المطلب الثاني: أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤسسة للتسامح

قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بأعمال أسست للتسامح لأول مرة في تاريخ البشرية، وذلك حين هاجر إلى المدينة المنورة، حيث شكل دولة متعددة الأعراق والأديان والألوان، وربط بين مكوناتها بعرى التقوى والمحبة والتسامح، فعاشت في ظله تلك المكونات بسلام وأمان، وكان أول عمل قام به -صلى الله عليه وسلم- عندما وصل إلى المدينة المنورة هو تأسيس المسجد النبوي الشريف، وذلك لتوثيق صلة الناس بالله تعالى؛ لأن أي مجتمع لا يكون متصلا بالله، لا يكتب له النصر ولا النجاح؛ ولأن الاتصال بالله عز وجل يعزز أهل الحق وينصرهم، ويوطد الأمن والسلام، فعبودية الله دعامة أساسية من دعامات وحدة البشر، ولذلك قال: -صلى الله عليه وسلم- “أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى”([22]).

فالحديث يوضح أن وحدة الناس في شيئين: وحدة الربوبية، والوحدة البشرية، فالإنسان أخو الإنسان من جهتين، والإنسان أخو الإنسان مرتين؛ لأن الرب واحد، والأب واحد، يقول جل من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ (النساء:1) ويقول جل شأنه كذلك: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13) ونلاحظ أن هذه الآية نزلت في السنة الثامنة للهجرة، وكان ذلك عندما صعد بلال ظهر الكعبة ينادي “الله أكبر” فاستنكر الناس من قريش على بلال، وقالوا أعبد حبشي يعلو ظهر الكعبة بحضورنا؟! بل إن بعض الجاهليين كان يقول لما أذن بلال –رضي الله عنه- على الكعبة: الحمد لله الذي قبض أبي ولم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟ وقال أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئا، لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصاة، فأتى جبريلُ -عليه السلام- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره خبرهم، فأقبل حتى وقف عليهم فقال: “أما أنت يا فلان فقلت كذا، وأما أنت يا فلان فقلت كذا، وأما أنت يا فلان فقلت كذا) فقال أبو سفيان: أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم”([23]).

وتظهر سماحة النبي -صلى الله عليه وسلم- على نحو ساطع، بإطلاق مبدأ التآخي بين المهاجرين والأنصار، ولا يخفى ما تظهره هذه المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار من التفوق السياسي والفكري والتنظيمي المدهش الذي تمتعت به قيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مدن قبلية لا تعرف ذلك النمط من البناء، فقد آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، وجعل منهم أخوة متحابين، تعاونوا وتحابوا بروح الله، فأصبحوا متعاونين على البر والتقوى، وكان الأنصار عند حسن ظن النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم، لدرجة أن هذه المؤاخاة لم يقف أمرها عند حد المؤاخاة فحسب، بل أصبحوا بها يتوارثون كما يتوارث الأبناء من آبائهم، فعن ابن عباس، قال: “آخى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه، وورث بعضهم من بعض حتى نزلت: {وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض} فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب([24]).

وكان من ثمرة هذه المؤاخاة ما تميز به الأنصار من إيثار غيرهم على أنفسهم، حتى في الطعام؛ فعن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا، والذي بعثك بالحق، ما عندي إلا ماء، فقال: “من يضيف هذا الليلة رحمه الله” فقام رجل من الأنصار فقال: أنا  يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيئ؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال فعلليهم بشيئ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئ السراج، وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه، قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة”([25]).

فهذه المآخاة طبعت المجتمع في المدينة بطابع السماحة وأمدته بروح التسامح، مما انعكس أمنا وسلاما وطمأنينة ووقارا، وأذهب ما كان يسود في هذا المجتمع من بغض وتناحر ومكر وقتل وتدابر، وأبرأته من كل ذلك حتى أصبحت المدينة مدينة فضل وأمان بعدما كانت بلدة شر مستطير([26]).

أضف إلى تلك المؤاخاة مسألة أخرى لا تقل عنها أهمية، وهي عقد المعاهدات مع المخالفين في الدين، حيث تدل سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على تسامحه وتعامله مع الآخر المخالف، تعاملا تنوعت أشكاله لكن اتحدت أهدافه ومراميه، فهو كان يؤمن بوحدة البشر والتعددية والتشاركية، ولذا نجده خاطب وراسل ملوك الدول وأمراءها، وأذن لأصحابه بالهجرة إلى أرض الحبشة (دولة كافرة) لأن فيها ملكا لا يظلم الناس عنده؛ ونزل بعد العودة من الطائف، في رحلة الشدة الشديدة، بجوار المطعم بن عدي([27]).

وشاركه في الحصار في شعـب أبي طالب غير المؤمنـين من أصحابه، إذ لما أجمعت قريش على أن يقتلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبلغ ذلك أبا طالب، جمع بني هـاشم وبني المطلب، فأدخلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شِعْبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه إلى ذلك، حتى كفارهم، فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية([28]).

ثم بعد هجرته -صلى الله عليه وسلم- قام بخطوات عملية حولت القبائل وأبناء الشرائع الدينية في المدينة إلى لبنات أصيلة في بناء الأمة الواحدة، وفي رعية هذه الدولة الإسلامية الواحدة، فقد خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهجه الواضح الذي يؤسس للأمة الواحدة، وتعامل مع تنوعها واختلافها في الشرائع الدينية، وفي الشعوب والقبائل، وفي الألوان والأجناس، وفي الفلسفة واللغات والأقوام، وفي المناهج والعادات والتقاليد والأعراف؛ لأن ذلك سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل([29]).

وقد بينت المواثيق والعهود التي عقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة وغيرها، أهمية هذا المنهج الرشيد في بناء الوحدة الإنسانية، وتعزيز السلم والتسامح بين الإنسانية جمعاء، كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبقى على جميع القيم والمواثيق في الجاهلية التي تتجه هذا الاتجاه، بل إنه زكاها، ومن أبرز تلك المواثيق والعهود التي تعتبر جذورا للتسامح، حلف الفضول: الذي أبرم في أواخر القرن الميلادي السادس، من المرجح بين (590 و595م) حين اجتمع فضلاء مكة في دار عبد الله بن جدعان، وتعاهدوا على أن لا يدعوا ببطن مكة مظلوما من أهلها، أو ممن دخلها من غيرها من سائر الناس إلا وكانوا معه على ظالمه حتى ترد مظلمته([30]).

وقد حضر النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الحلف، وكان له من العمر عشرون عاما، كما تروي بعض كتب السيرة، وبارك ذلك العمل في الإسلام؛ لأنه يحقق مقاصد الدين ولو لم يكن قد تحقق ذلك على يديه؛ روى الحميدي أن رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “لقـد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعز ظالم مظلوما”([31]).

كما أسس دستور المدينة الذي يعتبره البعض أول دستور مكتوب في العالم، أو أول عقد اجتماعي في تاريخ البشرية، أو شرعة المدينة التي كتبها الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما جاء إلى المدينة مهاجرا، والذي يعتبر أهم المرتكزات للمواطنة في دولة المدينة، والذي حمى السلم الأهلي، وتناول الحقوق والواجبات، وتضمن حقوق الطوائف والتكوينات التي تعيش فيها وبخاصة الديانة اليهودية، فقد رسخ هذا الدستور الذي وضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقب الهجرة إلى المدينة المساواة في حقوق المواطنة وواجباتها، على نحو غير مسبوق وغير ملحوق، منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا([32]).

 

المبحث الثاني: مظاهر التسامح وتجلياته في السنة النبوية

أعطت الأحاديث النبوية الدالة على التسامح زادا فكريا للمسلمين تحول إلى ممارسة عملية، تجسدت على أرض الواقع من خلال معاملاتهم وسلوكهم مع الموافق والمخالف، وشكلت فلسفة التسامح التي صنعت النموذج الأمثل في التعامل مع الإنسان وضمان حقوقه وصيانتها، ويمكن تلمس مظاهر وتجليات التسامح في السنة النبوية من خلال المطلبين الآتيين:

المطلب الأول: الأخوة الإنسانية وتكريم الإنسان

إن الإسلام يريد أن يؤكد في ضمير الناس حقيقة هامة، وهي أن كل الناس من أصل واحد، وهو آدم، عليه السلام، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ (النساء:1). وقد جاءت أحاديث كثيرة ووقائع عديدة في سيرته -صلى الله عليه وسلم- لدعم أسس الوحدة الإنسانية، وقد بين ذلك بألوان من الخطاب، فهناك الخطاب العام التكليفي الذي ينص على وشيجة الإخاء الإنساني، فيربطها بالمنبع الموحد في أصل نشأتها، وهو أبو البشر آدم -عليه السلام- وهناك لون آخر من الخطاب يصف الوحدات الإنسانية الشعوب والقبائل التي تكونت بمحض إرادة الله وهدايته، بأنها إنما وجدت لتتعارف وتتقارب وتتعاون وتتراحم، في ظل المساواة الإنسانية، ولا نكران أن البشر يختلفون في لغاتهم وألوانهم من الناحية العامة، لكن هذا الاختلاف لا يؤبه له، ولا يخدش ما تقرر من تساويهم في الحقيقة الإنسانية الأصلية، إنه كاختلاف ألوان الورد في البستان، أو اختلاف الأزياء التي يرتديها الإنسان”([33]) .

والتفاضل إنما يكون بالتقوى، ولا يكون ذلك إلا في دار الجزاء كما يرشد إلى ذلك الحديث الثابت في الصحيح من قوله: -صلى الله عليه وسلم- “إن الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، لا تؤذوا مسلما بكافر”([34]).

وقد حفلت السنة بكثير من الأحاديث النبوية التي توضح مبدأ المساواة في الحياة العامة، وقد جرى تطبيق المساواة عمليا في الصدر الأول للإسلام، على وفق الروح التي جاء بها الإسلام فلا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى.

وقد أرسل عمرو بن العاص عبادة بن الصامت، وهو من الصحابة الأجلاء –أسود اللون– وكان رئيس الوفد الذي أرسله عمرو بن العاص لمفاوضة المقوقس عظيم القبط، فضاق به المقوقس لسواده وبسط جسمه وطلب من الوفد أن يتكلم غيره فردوا عليه: “إن هذا أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا، وقد أمره الأمير علينا فلا نخالف أمره، فعجب المقوقس: كيف يكون الأسود أفضلهم!! فردوا عليه بأن الألوان ليست ما تقاس به الرجال، وإن الإسلام لا يعرف في تقويم البشر إلا الأخلاق والمواهب الفاضلة([35]).

إن هذه المشاهد تتكرر في أيامنا كثيرا، بل ربما يقع فيها أناس يحسبون في الملإ من أهل العلم والتقوى، بل وكثيرا ما نسمع أصواتهم تجلجل من فوق المنابر يبينون للناس معنى التفاضل فيما بين الناس، وأنه لا تفاضل إلا بالتقوى، وهم بأنفسهم بعيدون عن تطبيق معنى المساواة، فتسمع بعضهم يصف وينعت صاحب البشرة السوداء بالعبد، أو من هو أجعد الشعر بالعبد، وهكذا… والحق أن لون الجلد الإنساني لا يسوغ أن يكون مثار تقديم أو تأخير، فالمدار على الخُلُق والسلوك في تحديد القيم([36]).

ويتجلى الهدف من التسامح في ميزان السنة النبوية في مبدأ المساواة الذي دعا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وطبقه، ومحا به من الأفهام في كل عصر ومصر نظام الطبقات، وقد تعلم المسلمون من أصل دينهم أن الذي تعنو له الوجوه، وتسجد في حضرته الأرواح والأجساد وتستجيب لندائه وحكمه الخاصة والعامة، هو قيوم السماوات والأرض وحده.

لقد أكد الإسلام على حرمة الذات الإنسانية، وعني بتقرير كرامة الإنسان، وعلو منزلته، فأوصى باحترامه وعدم امتهانه واحتقاره، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء: 70) وميزه بالعقل والتفكير تكريما له وتعظيما لشأنه، وتفضيلا له على سائر مخلوقاته، وفي الحديث عن عائشة –رضي الله عنها– مرفوعا: “أول ما خلق الله العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر، فأدبر، فقال له: ما خلقت خلقا أحب إلي منك، ولا أكبك إلا في أحب الخلق إلي”([37]).

وفي هذه النصوص ما يدعو إلى احترام الإنسان، وتكريم ذاته، والحرص على تقدير مشاعره، وبذلك يضع الإسلام الإنسان في أعلى منزلة، وأسمى مكان، حتى إنه يعتبر الاعتداء عليه اعتداء على المجتمع كله، والرعاية له رعاية للمجتمع كله، وتقرير الكرامة الإنسانية للفرد، يتحقق أيا كان الشخص، رجلا أو امرأة، حاكما أو محكوما، فهو حق ثابت لكل إنسان، من غير نظر إلى لون أو جنس أو دين، حتى اللقيط في الطرقات ونحوها، يجب التقاطه احتراما لذاته وشخصيته، فإذا رآه أحد ملقى في الطريق، وجب عليه أخذه، فإن تركه الجميع دون التقاطه أثموا جميعا أمام الله تعالى، وكان عليهم تبعة هلاكه([38]).

وقد بينت السنة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم- أنه لا يجوز التعرض للنفس الإنسانية بقتل أو جرح، وقد جاء في خطبة الوداع التقرير من الرسول –صلى الله عليه وسلم– على حرمة دم المسلم وماله وعرضه، فعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم– يوم عرفة قال: “أيها الناس إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا”([39]).

كما أكد ذلك عمليا في دستور المدينة، ذلك الميثاق والعهد الذي كفل حق الحياة وشدد عليه، ويتضح ذلك عندما ننظر إلى العقوبات التي تضمنها هذا الدستور تجاه القاتل الذي ينهي حياة شخص دون حق (من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به)([40]) كما ينص على أن (الجار كالنفس)([41]) فالحياة حق مشترك يتمتع به جميع الناس دون تمييز أو تفرقة، قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ (المائدة:45) فالمسلم وغير المسلم، والرجل والمرأة، كلهم سواء في حرمة الدم واستحقاق الحياة، وكما أن الإسلام حرص على احترام الإنسان حيا، فقد أمر بالمحافظة على كرامته ميتا، فمنع التمثيل بجثته، وألزم تجهيزه ومواراته، ونهى عن الاختلاء والجلوس على القبور كما جاء في الحديث الذي أخرجه البيهقي عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “لأن  يجلس أحدكم على جمرة أو على نار فتحرق ثيابه حتى تخلص إليه خير له من أن يجلس على قبر”([42]).

وقد مرت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: “أليست نفسا”([43]).

كما حذرت السنة النبوية من كل شكل من أشكال الاعتداء على النفس البشرية، سواء كان على البدن كالضرب والسجن ونحوه، أو السب أو الشتم والازدراء والانتقاص، وسوء الظن ونحوه، فقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة”([44]).

ولهذا قرر الإسلام زواجر وعقوبات، تكفل حماية الإنسان ووقايته من كل ضرر أو اعتداء يقع عليه، ليتسنى له ممارسة حقه في الحرية الشخصية، وقد منع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه– الولاة من أن يضربوا أحدا إلا أن يكون بحكم قاض عادل، كما أمر بضرب الولاة الذين يخالفون ذلك بمقدار ما ضربوا رعاياهم، بل إنه في سبيل ذلك منع الولاة من أن يسبوا أحدا من الرعية، ووضع عقوبة على كل من خالف ذلك([45]).

ومن جوانب التسامح في السنة النبوية كذلك ما حضت عليه وأوصت به من إعانة الإنسان ومساعدته في إيواء نفسه وتوفير سكن مناسب له، فمتى ما كان عاجزا عن توفير مأوى لنفسه، وجب على الحاكم والمسلمين أن يوفروا له السكن المناسب، حتى يضمن له أدنى مستوى لمعيشته، ويتأكد ذلك خاصة على الدولة، فقد روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له”([46]).

وقد استدل الفقهاء بهذا الحديث وغيره، على أن أغنياء المسلمين مطالبون بالقيام على حاجة فقرائهم إذا عجزت أموال بيت المال عن القيام بحاجة الجميع من الطعام والشراب واللباس، والمأوى الذي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة، وذكر أهل العلم أن هناك وجوها للإنفاق، منها الإنفاق في تعليم الناس، وفي المكتبات التي يرجعون إليها، وكذلك الإنفاق في بناء المدارس التي يكون الناس بحاجة إلى التعلم فيها، وفي بناء المساجد التي تضم العابدين الراكعين الساجدين، ومنها الإنفاق على الفقراء والمساكين…

فإذا ما ملك الإنسان مأوى ومسكنا، فلا يجوز لأحد أن يقتحم مأواه، أو يدخل منزله إلا بإذنه، حتى لو كان الداخل خليفة، أو حاكما أعلى –رئيس دولة- ما لم تدع إليه ضرورة قصوى أو مصلحة بالغة؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النور:27)

ولحفظ حرمة المنازل وعظمتها حرم الإسلام التجسس، وذلك لأن في التجسس انتهاكا لحقوق الغير والتي منها: حفظ حرمة المسكن، وحرية صاحبه الشخصية بعدم الاطلاع على أسراره، وقد حرصت السنة النبوية على أن يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على أسرارهم، آمنين على عوراتهم. ولا يوجد مبرر-مهما يكن- لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات، حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في السنة النبوية ذريعة للتجسس على الناس، فالناس على ظواهرهم، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم، وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم([47]).

 

المطلب الثاني: أسس العلاقة مع الآخر في السنة النبوية

تتأسس العلاقة مع الآخر في السنة النبوية على التسامح الديني والاجتماعي والسياسي، ويمكن إجمال هذه الأسس في الآتي:

أولا: الحرية الدينية

نتيجة لما ساد في عصر الجاهلية من الظلم والعدوان القائم على التعصب الديني والإرهاب الفكري، أعلن الإسلام بكل صراحة ووضوح عداوته للتطرف والغلو، سواء في الدين، أو في التعامل الأخلاقي البشري، متوخيا في دعوته أسلوبا حضاريا راقيا، يقوم على مبدأ التسامح، ويندد بالتعصب الديني والإرهاب الفكري، والشواهد النصية على هـذا التوجه من السنة النبوية كثيرة، فقد ترجم دستور المدينة تسامح النبي -صلى الله عليه وسلم- ورحمته بالآخر المخالف، بما أقره لليهود من العيش بأمن وسلام إلى جانب المسلمين، يمارسون معتقداتهم وأمور دنياهم الخاصة بهم، التي تضاد معتقد الدولة الإسلامية، التي أرسى دعائمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- على التسامح والتناصح والبر دون الإثم، معترفا (للآخر) كيفما كان بأنه (أمة مع المؤمنين) دون الالتفات لعقيدته، بل ترك لكل أمة حقها في الحرية الدينية، وأنه لا يحد من حريتها هـذه شيء، سوى عدم الاعتداء على الطرف المقابل وظلمه”([48]).

والسر هـنا في بلوغ النبي -صلى الله عليه وسلم- شأوا بعيدا من التسامح تجاه مخالفيه: أنه لا يجد في منح المخالف حرية العقيدة، وممارسته لشعائر دينه، حرجا يضعف من الثقة بما هـو عليه من الحق المبين: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ (النمل:79) ومن ثم فلا تكون تلك الحرية والممارسة لشعائر الدين المخالف مثارا للتعصب أو المشاعر العدائية ومصادرة الآراء والمعتقدات؛ لأن المسألة لم تكن مسألة تكتيك مرحلي ريثما يتسنى للرسول -صلى الله عليه وسلم- تصفية أعدائه في الخارج لكي يبدأ تصفية أخرى إزاء أولئك الذين عاهدهم، بل إنما أصدر هـذا الموقف انطلاقا من مبادئ الحنيفية السمحة التي بعث بها، ومعلوم أنه لا شيء أدعى إلى العنف والاضطراب من أن يسمح دين لمعتقديه أن يبيدوا سائر الأديان الأخرى؛ لأنهم يخالفونهم في الدين، فـالدستور يؤكد المبدأ: (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم) طبقا لقوله تعالى:﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون:6)([49]).

ولم يقف الإسلام بهذا الأفق غير المسبوق، في السماحة والتسامح مع “الآخر” -المتدينين بديانات سماوية فقط، أهل الكتاب من اليهود والنصارى– وإنما امتد به ليشمل المتدينين بالديانات الوضعية، فتركهم هم أيضا وما يدينون، وعاملهم في الدولة الإسلامية معاملة أهل الكتاب، فعندما فتح المسلمون فارس –وأهلها مجوس يعبدون النار ويقولون بإلهين أحدهما للخير والنور والثاني للشر والظلمة– عرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أمرهم على “مجلس الشورى” الذي كان يجتمع بمجلس المدينة، في مكان محدد، وأوقات محددة، وكان عمر يجلس معهم فيه، ويحدثهم على ما ينتهي إليه من أمر الآفاق” والولايات والأقاليم، فقال لأعضاء مجلس الشورى: “كيف أصنع بالمجوس”؟، فوثب عبد الرحمن بن عوف، فقال: أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: سنّوا فيهم سنة أهل الكتاب([50]).([51])

فعوملت الديانات الوضعية معاملة الكتابية، وجاء الفقهاء فقعدوا هذه السنة النبوية، وهذا التطبيق الراشدي لها، فقالوا: لقد كانت لهذه الديانات كتب ثم ضاعت([52])..

هكذا بلغ الإسلام القمة –غير مسبوق ولا ملحوق– عندما جعل “الآخر” يحافظ على اختلافه ومغايرته، ورعى حقوق هذه المغايرة وهذا الاختلاف، وحماهما بجعله هذا “الآخر” جزءا من “الذات” أي الأمة الواحدة، ورعية الدولة الواحدة، كما جعل كل ذلك جزءا من الاعتقاد الإسلامي، والتكليف الإلهي، والسنة النبوية، والسياسة الشرعية، وعهد الله وميثاقه، وليس مجرد حق من حقوق الإنسان يمنحه حاكم ويمنعه آخرون!

وتزداد الدخشة وتتعاظم عندما نعلم أن الإسلام لم يطلب من هذا “الآخر الديني” مقابل كل هذا السخاء في “الحقوق” سوى “واجب واحد” هو أن يكون هذا “الآخر” لبنة في جدار الأمن الوطني والحضاري للدولة الإسلامية، وأن يكون ولاؤه كاملا للدولة والوطن، وانتماؤه خالصا للأمة، التي هو جزء أصيل فيها، وألا يكون ثغرة اختراق لحساب أي من الأعداء([53]).

يقول محمد الخضر حسين، عن حق حرية الاعتقاد في الإسلام: “لقد قرر الإسلام في معاملة الأمم التي ضمها تحت حمايته حقوقا تضمن لهم الحرية في ديانتهم، والفسحة في إجراء أحكامهم بينهم، وإقامة شعائرها بإرادة مستقلة، فلا سبيل لأولي الأمر على تعطيل شعيرة من شعائرهم، ولا مدخل للسلطة القضائية في فصل نوازلهم الخاصة إلا إذا تراضوا على المحاكمة أمامها، فتحكم بينهم على قانون العدل والتسوية، قال تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة:42) وإبقاء المحكومين على شرائعهم وعوائدهم منظر من مناظر السياسة العالية، وباب من أبواب العدالة يدخلون من قبله إلى أكناف الحرية”([54]).

إن هـذا النظام العقـائدي والأخـلاقي والعملي لا يمكن فرضه على أي إنسان بالقـوة والجـبر، فهو ليس بالشيء الذي يحشر في ذهن الإنسان حشرا، وهذا ما حـدا بالدولة الإسلامية الأولى بالمدينة إلى أن تحمل على عاتقها واجب حماية هـذا الحق لجميع المتساكنين بمخلتف أجناسهم وعقائدهم.

ثالثا: قبول الآخر

أصل العلاقة مع الآخر هو قبوله، ومسالمته والعدل في معاملته، والرفق به، وحسن معاملته، وذلك على مبدأ التعايش السلمي المشترك، والعلاقة مع الآخر في السنة النبوية تأسس على هذا.

ولذلك حينما استقر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة بعد الهجرة، أرسى مبدأ القبول بالآخر، ولا شك أننا في أشد الحاجة إلى هذا المفهوم، مفهوم أن نعيش مع الآخر، مفهوم قبول الآخر؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وجد في المدينة مزيجا إنسانيا متنوعا من حيث الدين والعقيدة، ومن حيث الانتماء القبلي، والعشائري، ومن حيث نمط المعيشة، المهاجرون من قريش، والمسلمون من الأوس والخزرج، والوثنيون من الأوس والخزرج، واليهود من الأوس والخزرج، وقبائل اليهود الثلاثة: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة؛ والأعراب الذين يساكنون أهل يثرب، والموالي، والعبيد، وغيرهم.

فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطبق هـذا المبدأ عمليا مع مواطني الدولة الإسلامية في المدينة من غير المسلمين، فكان يحضر ولائم أهل الكتاب، ويغشى مجالسهم، ويواسيهم في مصائبهم، ويعاملهم بكل أنواع المعاملات التي يتبادلها المجتمعون في جماعة يحكمها قانون واحد، وتشغل مكانا مشتركا، فكان يقترض منهم ويرهنهم متاعا، ولم يكن ذلك لضرورة أو عجز من أصحابه أن يقرضوه، فكان منهم الذي لا يبخل بماله، ولا يمنعه عنه -صلى الله عليه وسلم- بل يتلهف على أن يقرضه من غير قيود.

وفي غزوة خيبر كان من بين الغنائم التي غنمها المسلمون صحائف متعددة من التوراة، فلما جاء اليهود يطلبونها، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتسليمها لهم، كيف لا والرسول -عليه الصلاة والسلام- هو الذي يقول: “لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة”([55]).

فمن هـذا الجانب السلوكي، وما يتفرع عنه من أبعاد ترتبط بالإسلام في شموليته وتكامله، ينبثق “التسامح” سمة مميزة تطبع المجتمع، الذي يدعو الإسلام إلى قيامه و”التعايش” فيه بصفته دين “السماحة”، الذي لا ضيق فيه ولا تعصب ولا غلو ولا تطرف، ولا عنف ولا إرهاب، سواء مع “الذات” أو مع “الآخر”.

ويتجلى القبول بالآخر أكثر لمن تتبع بنود “دستور المدينة” من خلال معاملة المسلمين لليهود، وخاصة إذ اشتركوا معهم في مجالات الحياة، واتبعوا المؤمنين، فإن المؤمنين ينصرونهم، ويمدونهم بالمساعدة والمعونة، وبكل ما يحتاجون إليه، فقد نص دستور المدينة على: “… وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم”([56]) فالمتعاقدون لا ينبغي أن يؤدي اختلافهم في أديانهم إلى أن يقتل بعضهم بعضا، أو يعتدي بعضهم على بعض، بل يجب أن يتعاونوا على فعل الخير ومكافحة الشر، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة:2)([57]).

وأكثر من هذا، وفوقه فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقف بذلك الأفق السامي، عند “الآخر” الذي يبادل الإسلام اعترافا باعتراف، وقبولا بقبول، وإنما صنعه مع “الآخر” الذي ينكر الإسلام ويجحده ويكفر بمقوماته، وكل الآخرين، الذين ينكر كل واحد منهم صاحبه، ويجتمعون جميعا، حتى هذه اللحظة، على إنكار الإسلام ووجوده والكفران به، فلا يؤمنون بأن قرآنه وحي سماوي، ولا بأن رسوله مبعوث إلهي، ولا بأن ما جاء به دين إلهي، ومع كل ذلك وبرغمه كان هذا هو موقف النبي -صلى الله عليه وسلم– في الاعتراف بكل الآخرين، الذين ينكرون دين الإسلام ويجحدونه، بل لقد تجاوز الاعتراف بهم، والقبول لهم، ووصل إلى حد جعلهم جزء من “الذات” ذات الدين الإلهي الواحد، وذات الأمة الواحدة، بل وجعل تمكينهم من حرية إقامة جحودهم بالإسلام شرطا من شروط اكتمال عقيدة الإسلام، وإسلامية دولة الإسلام!([58]).

 

الخاتمة

في أعقاب هذه الصفحات التي تحاول التأصيل لثقافة التسامح في السيرة النبوية، يمكن أن نسجل بعض الملاحظات التي عنت لنا من خلال معالجة هذا الموضوع، منها:

أن قيمة التسامح تتجذر وتتأصل قولا وعملا في سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إذ أن المتتبع لها يلاحظ أن هناك عددا كبيرا من الأحاديث النبوية التي تدعو إلى التسامح وتحض عليه، وترغب في سلوك طريقه، كما أن هناك أحاديث عملية وأعمال نبوية تجسد التسامح، وتنزل فكرته على الواقع، وتطبقة في كل تجلياته وأبعاده.

أن جذور التسامح وثمراته تتمثل في عدد من الصفات الخُلقية، من قبيل الإحسان، والعفو، والصفح، وكظم الغيظ، والرفق، والرحمة، والسماحة، والمحبة، وهذه الصفات جميعا قد تحلى بها الرسول –صلى الله عليه وسلم- وظهرت بارزة في تعامله مع المسلمين وغيرهم، كما حض على انتهاجها ورغب في سلوكها، وبين ما يترتب على ذلك من خيري الدنيا والآخرة.

كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام بأعمال أسست للتسامح لأول مرة في تاريخ البشرية، وذلك حينما هاجر إلى المدينة المنورة، حيث شكل دولة متعددة الأعراق والأديان والألوان، وربط بين مكوناتها بعرى التقوى والمحبة والتسامح، فعاشت في ظله تلك المكونات بسلام وأمان، وتظهر سماحة النبي -صلى الله عليه وسلم- على نحو ساطع، بإطلاق مبدأ التآخي بين المهاجرين والأنصار، وفي عقد المعاهدات مع المخالفين في الدين.

ويتجلى الهدف من التسامح في ميزان السنة النبوية في مبدأ المساواة الذي دعا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وطبقه، ومحا به من الأفهام في كل عصر ومصر نظام الطبقات.

زد على ذلك أن العلاقة مع الآخر في الإسلام تتأسس وتقوم على التسامح الديني والاجتماعي والسياسي، فأصل العلاقة مع الآخر هو قبوله، ومسالمته والعدل في معاملته، والرفق به، وحسن معاملته، وذلك انطلاقا من مبدأ التعايش السلمي المشترك، ولم يقف الإسلام بهذا الأفق غير المسبوق، في السماحة والتسامح مع “الآخر” -المتدينين بديانات سماوية فقط، أهل الكتاب من اليهود والنصارى– وإنما امتد به ليشمل المتدينين بالديانات الوضعية، فتركهم هم أيضا وما يدينون، وعاملهم في الدولة الإسلامية معاملة أهل الكتاب.

([1]) – البخاري، في الأدب المفرد، الحديث رقم: (270) ص: (103) وسنن الترمذي، باب ما جاء في حسن الخلق، الحديث رقم: (2003) (3/431) قال عنه: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

([2]) – أحمد بن حجر الهيتمي: الفتح المبين بشرح الأربعين، عني به: أحمد جاسم محمد المحمد، وجماعة آخرون، ط1، دار المنهاج، جدة، المملكة العربية السعودية، 1428 هـ، 2008م، (ص 342).

([3]) – صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، الحديث رقم: (1955) (3/1548) وسنن ابن ماجه، باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، الحديث رقم: (3170) (2/1058).

([4]) – محمد بن صالح بن محمد العثيمين، شرح الأربعين النووية، دار الثريا للنشر، ص 185.

([5]) – ابن حجر الهيتمي، الفتح المبين بشرح الأربعين، (ص 342).

([6]) – مالك في الموطأ، كتاب الصدقة، باب ما جاء في التعفف عن المسألة، الحديث رقم: (3663).

([7]) – عياض بن موسى بن عياض، شرح صحيح مسلم المسمى: إكمال المعلم بفوائد مسلم، تحقيق الدكتور/ يحي إسماعيل، ط1، مصر، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، 1419هـ،  1998م، (8/28).

([8]) – صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب: غزوة ذات الرقاع، الحديث رقم: (4134).

([9]) – أحمد بن علي بن حجر: فتح الباري، (7/428).

([10]) – سنن ابن ماجه، باب الحلم، الحديث رقم: (4186) (2/1400) وشعب الإيمان، للبيهقي، الحديث رقم: (7950)، (10/536).

([11]) – عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن، شرح سنن أبي داود، دار ابن الجوزي، الدمام، (13/544).

([12]) – صحيح البخاري، كتابة استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب: إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديث رقم: (6927) وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: فضل الرفق، الحديث رقم: (2593).

([13]) – علي بن سلطان محمد، القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، بيروت، لبنان، دار الفكر، ط1، 1422هـ، 2002م، (8/3191).

([14]) – الدارمي، السنن، باب كيف كان أول شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديث رقم: (15) (1/166)، والحاكم، المستدرك على الصحيحين، الحديث رقم: (100) (1/91).

([15]) – محمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني، التنوير شرح الجامع  الصغير، تحقيق: د. محمد إسحاق محمد إبراهيم، ط1، الرياض، مكتبة دار السلام، 1432هـ،2011 م (4/189).

([16]) – سنن ماجه، باب السماحة في البيع، الحديث رقم: (2203) (2/742) وصحيح ابن حبان، الحديث رقم: (4903)، (11/267).

([17]) – زين الدين المناوي: التيسير بشرح الجامع الصغير، ط3، الرياض، مكتبة الإمام الشافعي، 1408ه،ـ 1988م، (2/32).

([18]) – عبد الرزاق: المصنف، كتاب الطهارة، باب الوضوء عن المطاهر، الحديث رقم: (238) (1/74).

([19]) – صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، الحديث: (13) (1/12) وصحيح مسلم، باب الدليل على أن من خصال الإيمان الحب في الله، الحديث رقم: (45) (1/67).

([20]) – زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق: مجموعة من الباحثين، ط1، المدينة النبوية، مكتبة الغرباء الأثرية، القاهرة، مكتب تحقيق دار الحرمين، 1417هـ، 1996م (1/45).

([21]) – علي بن خلف، ابن بطال أبو الحسن، شرح صحيح البخاري، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، ط2، السعودية، الرياض، مكتبة الرشد، 1423هـ، 2003م، (1/65).

([22]) – مسند أحمد، الحديث رقم: ( (23489) (38/474) وشعب الإيمان: للبيهقي، الحديث: (4774) (7/832).

([23]) – الأزرقي، أخبار مكة، (1/275).

([24]) – مسند أبي داود الطيالسي، مسند عكرمة مولى ابن عباس، الحديث رقم: (2798) (4/398) وسنن أبي دود، باب نسخ ميراث العقد بميراث الرحم، الحديث رقم: (2921) (3/128).

([25]) – صحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، رقم الحديث: (2054) (3/1634) وصحيح ابن حبان، ذكر ما يستحب للمرء إيثاره الأضياف على إشباع  عياله إذا علم أن ذلك لا يضرهم، الحديث رقم: (5287) (12/95).

([26]) – أحمدي الشيخ التجاني: ثقافة التسامح في القرآن الكريم والسنة النبوية ودرها في مكافحة ومعالجة التطرف: دراسة نظرية تطبيقية، دار نور للنشر، ألمانيا الاتحادية، ط1، 2016م. ص 20.

([27]) – عبد الملك بن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وآخرون، الطبعة الثانية، مصر، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1375هـ، 1955م، (2/24).

([28]) – عبد الملك بن هـشام: السيرة النبوية، (1/430).

([29]) – أحمدي الشيخ التجاني: ثقافة التسامح في القرآن الكريم والسنة النبوية ودرها في مكافحة ومعالجة التطرف: دراسة نظرية تطبيقية، ص 20.

([30]) – عمر بن علي بن أحمد، ابن الملقن: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، الطبعة الأولى، تحقيق: مصطفى أبو الغيط وآخرون، الرياض، السعودية، دار الهجرة للنشر والتوزيع، 1425هـ، 2004م، (7/325).

([31])-إسماعيل بن عمر بن كثير: البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري، ط1، دار إحياء التراث العربي، 1408هـ، 1988م، (2/315).

([32]) – محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ص 20.

([33]) – الغزالي، محمد: حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، الطبعة السابعة، مصر، دار نهضة مصر، 2013م، ص 14.

([34]) – المستدرك على الصحيحين، للحاكم، الحديث رقم: (5061) (3/271) نيل الأوطار، للشوكاني، (5/99).

([35]) – الغزالي محمد: حقوق الإنسان، ص17، بتصرف.

([36]) – الغزالي محمد: حقوق الإنسان، ص16.

([37]) – انظر جامع الأصول، لابن الأثير، الحديث رقم: (1992) (4/18).

([38]) – الثميني، عبد العزيز: التاج المنظوم من درر المنهاج المعلوم، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان، ص446.

([39]) -.صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب ظهر المؤمن حمى إلا في حد أو حق، الحديث رقم: (6403) (6/2490).

([40]) – الشعيبي أحمد قائد: كتاب الأمة، وثيقة المدينة: المضمون والدلالة، العدد 110، سلسلة تصدرها وزارة الأوقاف القطرية كل شهرين، السنة الخامسة والعشرون، ذو القعدة 1426ه، ص 189.

([41]) – الشعيبي، أحمد قائد، وثيقة المدينة، ص 189.

([42]) – صحيح مسلم: كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، الحديث رقم: (971) (2/667) والسنن الكبرى للنسائي: كتاب الجنائز، التشديد في الجلوس على القبور، الحديث رقم: (2182) (2/470).

([43]) – صحيح البخاري: كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي، الحديث رقم: (1312) (2/85) وصحيح مسلم: كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، الحديث رقم: (961) (2/661).

([44]) – صحيح البخاري: كتاب المظالم والغصب، باب: لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، الحديث رقم: (2442) (3/128) وصحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب: تحريم الظلم، الحديث رقم: (2580) (4/1996).

([45]) – أحمدي الشيخ التجاني: ثقافة التسامح في القرآن الكريم والسنة النبوية ودرها في مكافحة ومعالجة التطرف: دراسة نظرية تطبيقية، ص 29.

([46]) – صحيح مسلم: كتاب اللقطة، باب استحباب المؤاساة بفضول المال، الحديث رقم:(1728) (3/1354).

([47]) – أحمدي الشيخ التجاني: ثقافة التسامح في القرآن الكريم والسنة النبوية ودرها في مكافحة ومعالجة التطرف: دراسة نظرية تطبيقية، ص 33.

([48]) – الشعيبي: أحمد قائد، وثيقة المدينة، ص 189.

([49]) – أحمدي الشيخ التجاني: ثقافة التسامح في القرآن الكريم والسنة النبوية ودرها في مكافحة ومعالجة التطرف: دراسة نظرية تطبيقية، ص 35.

([50]) -الحديث في الموطأ: كتاب الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس، الحديث (292)، (2/395). وانظر الاستذكار، لابن عبد البر، (2/242).

([51]) – البلاذري: أحمد بن يحيى، فتوح البلدان، بيروت، دار ومكتبة الهلال، 1988م، ص 327.

([52]) – محمد عبده: الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، مصر، دار المنار، 1373هـ، ص 53.

([53]) – انظر إبراهيم العجلوني: كتاب الإسلام والآخر، ص: 65.

([54]) – محمد الخضر حسين: الحرية في الإسلام، القاهرة، دار الاعتصام، ص (52-53).

([55])- مسند الإمام أحمد: الحديث رقم: (24855) (41/349).

([56]) – الشعيبي، أحمد قائد: وثيقة المدينة، ص 188.

([57]) – أحمدي الشيخ التجاني: ثقافة التسامح في القرآن الكريم والسنة النبوية ودرها في مكافحة ومعالجة التطرف: دراسة نظرية تطبيقية، ص 42.

([58]) – انظر إبراهيم العجلوني: كتاب الإسلام والآخر، ص78.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *