مناهج البحث في الأنثروبولوجيا والدراسات الاجتماعية / د. عبدالوهاب ولد محفوظ / أستاذ علم الاجتماع بجامعة نواكشوط
المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية مؤمنون بلا حدود / مؤسسة دراسات وأبحاث
ورشة تكوينية حول :
مناهج البحث في العلوم الاجتماعية
الجلسة الثالثة
مناهج البحث في الأنثروبولوجيا والدراسات الاجتماعية
د. عبدالوهاب ولد محفوظ / أستاذ علم الاجتماع بجامعة نواكشوط
محاور المداخلة :
أولا :مقدمة
ثانيا : المقاربة النظرية في الانثروبولوجيا و علم الاجتماع
1 ـ المقاربة الانقسامية
2 ـ المقاربة الفيبيرية
ثالثا : الفروض العلمية
رابعا : نماذج منهجية
1 ـ المنهج التاريخي
2 ـ المنهج الوصفي
3 ـالمنهج التجريبي
خامسا : خاتمة
أولا :مقدمة :
إن التعرض لإشكاليات وقواعد المنهج في الأنثروبولوجيا و الدراساتالاجتماعية تقودنا إلى التعرض لمجموعة من الملاحظات الأساسية التي تكشف بشكل أو بآخر مدى أهمية هذه القواعد وقدرتها على استيعاب المستويات المختلفة والمتباينة بالإضافة إلى دورها في مساعدة الباحث على إنتاج الحقيقة بطريقة منظمة ومنطقية([1]) رغم أن التعامل مع هذه الإشكالية كثيرا ما يتم تداوله بنوع من التساهل دون أن يأخذ بعين الاعتبار ما يحمله مفهوم المنهج من أبعاد ومضامين أساسية يمكن تمييزها في ثلاثة مستويات رئيسة([2]):
- مستوى يتعلق بالمقاربة النظرية التي يستعملها الباحث لفهم الظاهرة المدروسة واستيعاب جوانبها المختلفة.
- مستوى يتعلق بالتقنيات و الأدوات الميدانية ؛ مما يوضح لنا أن ليست هناك تعارضات تتنافى فيها المناهج بقدر ما يمكن التداخل بينها حين يستطيع الباحث التعامل معها بحذر وحذق.
غير أن ما يهمنا هنا هو أن هذه الازدواجية التي يعتمدها الباحث في إطار الجمع بين ما هو نظري وما هو ميداني تبحث بشكل أساسي عن نوع من التكامل والبلورة وذلك لعدة أسباب نذكر منها على سبيل المثال : عدم تجانس المجتمعات المدروسة ، هذا بالإضافة إلى ضعف المناهج الاجتماعية ذاتها وحاجتها إلى البلورة والتكامل لكونها ما زالت في بداية الطريق على حد تعبير A. reigner([3]) وتشكو من الافتقار للتوضيح العلمي الكافي.
- أما المستوى الثالث فيتعلق بالمستوى الأبستمولوجي الذي يتحدد في مدى ملاءمة هذه الأدوات المنهجية مع الموضوع المدروس ثم التساؤل عن قيمة المعلومات التي تم جمعها ومدى مصداقيتها (هل استطاع الباحث مثلا الوصول إلى الهدف المتوخى من دراسته أم لا؟ ).
لكن ما ينبغي أن نلفت إليه الانتباه هنا هو أن استعمال هذه المستويات لا يعني البتة السلامة من النقد والوصول إلى المستوى المطلوب بل قد يعني بالأحرى عكس ذلك، أي أن كل هذه الأدوات معرضة في كل وقت للنقد والتعديل والتقييم المنبثق عن التجربة التي يخوضها الباحث نفسه .
إننا هنا لا ننكر أن المنهجية هي نصف البحث العلمي بشكل عام و البحث الاثنروبولوجي والسوسيولوجي الذي يحاول إنتاج معرفة عقلية ومنظمة بشكل خاص ،لكننا لا ننكر بالمقابل أنها قد تتحول من أداة مساعدة إلى عائق عندما لا يحسن الباحث اختيار المنهجية الملائمة للموضوع المدروس.
هذا الطرح الأخير قد ينزاح بنا إلى طرح آخر وهو العلاقة بين المنهج والموضوع أيهما يفرض الآخر ويتحكم فيه؟ المنهج ؟ أم الموضوع؟ أم هما معا؟
إننا مع الرأي الأخير الذي يرى ضرورة تفاعلهما (المنهج والموضوع) ذلك أنه عندما يشكل الموضوع هما أساسيا بالنسبة للباحث فيبغي أن يحضر المنهج في هذا الاهتمام وبنفس الدرجة لا أن تكون علاقتهما تبعية ،فالمنهج يرافق عملية التأمل في موضوع البحث ،والموضوع لا يكون علميا ومنطقيا إلا إذا توفر على وعي منهجي وتأملي حوله، في نفس الوقت يظل افتقار التجريدي إلى التجريبي حاضرا والتكامل بينهما ضروريا رغم الصعوبات التي تواجه هذا الاهتمام في التوفيق بين ما هو نظري وما هو ميداني؛بين التأويل والتجريد إذ يصعب الانتقال من أحدهما إلى الآخر دون اضطراب معين وهو ما يزيد من صعوبات البحث وتعقيده، لهذا وغيره ستتركز مداخلتنا هذه على المستوى النظري على مقاربتين أساسيتين ؛ مقاربة انثروبولوجية وهي المقاربة الانقسامية و مقاربة اجتماعية وهي المقاربة الفيبيرية نسبة إلى ماكس فيبر وذلك لكونهما يهتمان بموضوع لا يزال يحيا في مجتمعنا الموريتاني كلما حاول هذا المجتمع تجاوزه و هو موضوع القبيلة و السلطة أما على المستوى الميداني فنرى أن المنهج التاريخي وما له من دوره في استجلاء البعد التاريخي للظاهرة والمنهج الوصفي و ما له من دور في كشف ملابسات الموضوع و وصف حالته الراهنة وكذا المنهج التجريبي و ما يتميز به من إثبات للفروض عن طريق التجربة ؛كل ذلك كفيل بأن يقربنا أكثر من الوصول إلى نتائج علمية و دقيقة ، فماهي هذه المقاربة الانقسامية و المقاربة الفيبيرية كمقاربات نظرية إذن ؟ و ما هي تلك المناهج كمناهج علمية ؟
ثانيا : المقاربة النظرية في الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع
سنتناول في هذا الموضوع نموذج انثروبولوجي هو المقاربة الانقسامية و نموذج سوسيولوجي هو المقاربة الفيبيرية فما هاتان المقاربتان إذن ؟
1–المقاربة الانقسامية:
عندما وضع أميل دوركهايم أسس النظرية الانقسامية في شكلها العام كان يريد بذلك أن يجد مفاتيح جديدة في مجال البحث العلمي عن أنماط الحياة في المجتمع القبلي لمعرفة نوعية العلاقات السائدة بين أفراده ، وقد حدد عالم الاجتماع الفرنسي أميل دوركهايم هذه الأنماط في أطروحته “تقسيم العمل الاجتماعي”([4]) التي أكد من خلالها أن المجتمعات تنتقل تدريجيا عبر التطور التاريخي من أشكال التضامن الآلي إلى أشكال التضامن العضوي([5])، أي من تضامن يؤسسه التشابه بين العناصر المكونة للمجتمع إلى تضامن يفرضه الاختلاف والتكامل اللذان يؤدي إليهما تقسيم العمل الملازم للنمو الديموغرافي ،ففي الحالة الأولى نحن أمام مجتمعات قليلة التمايز تنطبع بسيادة استبداد الوعي الجماعي([6]) وفي الحالات الأخرى نجد تشكيلات اجتماعية أكثر تطورا اقتصاديا وأخلاقيا حيث يعرف الوعي الفردي تفتقا أكثر بروزا ويتخذ هنا دوركهايم من القانون وتطوره خيطا موجها لبحوثه المخصصة لإقامة هذا التقابل (فالتضامن الآلي يناسبه القانون القمعي بينما يلائم القانون التعاوني التضامن العضوي ) وسيؤول التحليل إلى ضبط تتابع المراحل التي تشير على مستوى الانسانية برمتها إلى المرور التدريجي الذي ينتهي برجحان كفة “التضامن الآلي” لصالح “التضامن العضوي” ويتم ذلك بالانتقال من الجبلة “protoplasme” أو الفصيلة “Horde” التي تمنح انسجاما من محض التشابه على حد تعبيره([7]) إلى العشيرة (العشائر) “Clans” التي يشكل ترابطها قاعدة المجتمعات الانقسامية التي تقوم على أساس القرابة التي يقع التعبير عنها في المسؤولية الجماعية والدفاعية ووحدة الاسم وفي بعض الأحيان قد تكون كل واحدة من هذه العشائر مندمجة في مجموعة أكثر اتساعا متكونة من اجتماع العديد من العشائر ، ولها بذلك حياتها الخاصة واسمها المتميز ويمكن أن تكون كل واحدة من هذه المجموعات مندمجة مع مجموعات أخرى داخل ركام أكثر اتساعا ومن هذه السلسلة من الاندماجات المتلاحقة تحصل وحدة المجتمع الكلي وذلك هو الطابع التنظيمي الأكثر سموا([8]).
إن هذا التقابل وتجذير القسمة بين العضوي و اللاعضوي الذي يعتبر محورا أساسيا في جوهر إشكالية المجتمعات الانقسامية لدى دوركهايم والذي ما زالت أصداؤه حتى الآن تلاحق التقابل بين “المجتمعات الباردة” و”المجتمعات الساخنة” حسب الاصطلاح الستروسي (كلود ليفي ستروس) الذي يعتبر كذلك صاحب الأثر الكبير والفعال في أبحاث (Pritchard) بريتشارد([9]) الذي نشر وترجم مؤلفات دوركهايم في انجلترا وإن كان سيأخذ منحى آخر تمحور حول مقولتي البنية والنسق في تصوره للانقسامية وتحليل القرابة وذلك في كتابه الكلاسيكي حول قبائل النوير([10]) الذي يحرص فيه على إجلاء النظام السياسي لهؤلاء المنمين في النيل الأعلى في تعارضاته وانقساماته التي تندرج من تقسيمات كبرى أساسية إلى أخرى ثانوية وثالثة مبينا مع ذلك الطابع التقابلي بين هذه التقسيمات وما تشمل من علاقات تؤسس التقارب والتنافر في إطار شبيه من الترابطات تجعل من كل إنسان عضوا في قبيلة ما عندما يتجه النظر إلى تلك القبيلة من حيث علاقتها بقبائل أخرى ولكنه يصبح غير منتم إليها عندما نرجعه إلى تقسيمة في مقابل التقسيمات الأخرى في تلك القبيلة وكذلك بالنسبة للوحدات الأصغر (الفرع مثلا) يقول بريتشارد: “‘إننا نسمي التقسيمات الأكبر فروعا أولية (section) ، أما تقسيمات هذه الفروع فهي فروع قبلية ثانوية وهي بذاتها مركبة من مجموعات قرابية ومجموعة خدم([11])، إن هذه العبارات التي قام برشيتارد بإسقاطها على مجتمع النوير مثل “الفروع” و”التقسيمة” هي أقرب ما تكون – حسب ما يبدو- بمفاهيم جديده أدخلها بريتشارد لضبط بعض صيغ تجمع أفراد النوير([12]) في إطار تصور مسبق ينظر إلى هذه المجتمعات على أنها مجتمعات انقسامية بالدرجة الأولى وبالتالي ممزقة في إطار شبكة التقابلات التكاملية على اعتبار أن التقسيمة القبلية هي مجموعة سياسية في مقابل تقسيمات أخرى من نفس الجنس و التي يشكل مجموعها قبيلة ولكن فقط من حيث علاقتها بقبائل النوير الأخرى، وبقبائل أجنبية مجاورة لها تشكل … أجزاء من نفس النظام السياسي، فبدون هذه العلاقات لا يكون للتقسيمة القبلية وكذا القبيلة ذاتها إلا معنى جد ضئيل([13]) وهو ما يعبر بشكل واضح عن نظرية الانصهار والانشطار بين عناصر القبيلة فيما بينها وبينها مجتمعة والقبائل الأخرى في حالة اصطدام خارجي، في جو يفتقر لسلطة مركزية أو إلى دولة Sociétés acéphales .
إن مايهمنا هنا – رغم ابتعادنا من ادعاء تلخيص مؤلف بريتشارد وتقييمه – هو أن كل هذه النماذج وغيرها التي ذكرها بريتشارد عن مجتمع النوير سيعثر عليها كذلك أثناء دراسته للقبائل بمنطقة برقة بليبيا مما يدل على كون الإطار النظري لهذه الدراسات تم إعداده مسبقا ليتم تطبيقه على كل المجتمعات التقليدية التي قام بدراستها وكأنها مجتمعات متشابهة إلى حد التطابق بدرجة تفقد معها هذه المجتمعات خصوصيتها الاجتماعية والثقافية وظروفها التاريخية وسيروراتها المختلفة. إنه نفس التصور الذي تابعه بقية الأنثروبولوجيين وبالتحديد خلفه أرنست كيلنير “أنثروبولوجي بريطاني” عندما اهتم بدراسة القبائل البربرية بالأطلس الكبير(أحنصالة) وإن كنا هنا سننتقل من “الفوضوية النويرية إلى الديمقراطية البربرية” على حد تعبير عبدالودود ولد الشيخ([14])، من الزعيم “اللابس جلد الفهد”([15]) إلى الآمغار المنتخب بشكل دوري .
يعتبر مفهوم “الديمقراطية” الذي وصف به أرنست كيلنير القبائل النطاقة بالبربرية من المفاهيم التي اقتبسها حسب بنسالم([16]) من هانوطوولوتورنو، وكذا من روبير مونتانيي الذي سبق له أن تعرض لقبائل الأطلس الكبير1930 في كتابهles berbères et le makhzen من منظور مغاير وإن كان يكرس نفس النظرة التجزيئية ،إنها حسب رأينا ديمقراطية لاديموقراطية ليس لها أي بعد إيديولوجي إذ كلما استولت قبيلة على الحكم بادرت إلى تأسيس نظام باتريمونيالي عوض تأسيس نظام ديمقراطي.
إن أهم خصائص هذه القبائل تتمثل عند أرنست كيلنر في خاصيتين أساسيتين : خاصية بنيوية هي الانقسامية وخاصية تتصل بالموقع هي الهاشمية([17]) إزاء الحكم المركزي وإن كان ذلك لم يمنعها حسب رأيه من رفض الإطار السياسي وبعض جوانبه الأخلاقية وهو الأمر الذي حدا بأرنست كلنير نفسه إلى القول إن: المجتمع المغاربي – باستثناء تونس ربما – هو بمثابة مزيج من المجتمعات التي لم ينهض الحكم المركزي في إطارها بدور يذكر طوال عهد ما قبل الاستعمار([18])،وهكذا فإن النظام الانقسامي الذي تحدث عنه إيفانس بريتشارد يجد أرضيته الملائمة في هذا المجتمع الذي لا يعرف حسب رأيه المراتب الاجتماعية لأن طبيعة الانقسام تحول دون قيام الزعماء في الغالب ،فسلطة المقدم أو الشيخ تظل سلطة هشة ومهددة بصورة متميزة لكون انتخابه يتم بشكل دوري سنويا وبالتالي يمكن أن يتعرض لتقلبات سريعة في طبيعة التحالفات أو في التوازن العام بين المجموعات.
إن أهمية العنصر الديني الموجود داخل القبائل في شكل الزوايا قد دفع أرنست كيلنير بتعديل نظريته حول القبيلة وذلك بإضافة أرضية نظرية حول الصلحاء تحلل دور الأولياء والولاية في انتظام الحياة الاجتماعية لمجتمع يقدم نفسه بصفته مجتمعا انقساميا كما تحلل كذلك التقابل بين العلماء والمتصوفين لكون الأولياء يمثلون النموذج الشعبي الريفي الذي يعوض نصية وصرامة الفقهاء في المدينة.
هذه الملاحظات الانقسامية التي طبقها كلنير على المجتمع المغربي سنجدها تعيش نفس التطبيق على مجتمع “البيضان” في موريتانيا و بطبيعة الحال سحبها بالتالي على بقية المجتمع الموريتاني الزنجي مثلا خصوصا أنها دراسات ترى في كل هذه المجتمعات التقليدية مجرد صور متجانسة ومتطابقة إلى حد بعيد بغض النظر عن خصوصياتها التاريخية مختلفة التأثير والتأثر فمن طبق هذه المقاربة الانقسامية على المجتمع الموريتاني إذن؟ وهل من الممكن الاستفادة منها أم لا؟ وإلى أي حد؟ ولماذا؟.
الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها تستدعي منا تسجيل اسم ستيوارت C.C. Stewart الذي درس مجتمع البيضان العرب من خلال تطبيقاته لملاحظات كيلنير آنفة الذكر في إطار مساهمة قدمها (استيوارت) في الكتاب المشترك العرب والبربر arab and berbers([19]) الذي أشرف غيلنير نفسه على نشره ([20]) بالإضافة إلى أطروحة([21]) قدمها حول شيخ من كبراء الزوايا بموريتانيا هو الشيخ سيديا الكبير.
في هذه الدراسات سيحول ستيوارت كما سلفه غيلنيرعنصر الانقسام إلى مبدإ تفسيري من خلاله يتناول كل مسألة اجتماعية أو سياسية في المجتمع العربي الموريتاني. إنه مبدأ من خلاله لن يقتصر على عنصر الوساطة لدى الزوايا بل سيتجاوزه وذلك بتقسيم المجتمع إلى مجموعتين متكاملتين: زوايا مسالمين وماهرين في الإنتاج إلى جانب محاربين أقوياء ولهم بالنتيجة القدرة على الحماية.
إنهما في نظره مجموعتان عشائريتان انقساميان تمتازان بالترابط والتنافس ولكن في شكل تقابلي تكاملي بمعنى أن هذا الصراع والانقسام يفتقر دائما إلى سياسة سلطوية مسيطرة وبالتالي يعيش (الصراع) تكافؤا مستمرا خصوصا أن الزوايا في نظره يعيشون حياة أكثر رخاء من حياة حسان وذلك ما يجعلهم بحاجة إلى حماية هؤلاء كما أن حسان بحاجة إلى الزوايا من أجل موارد المياه ومداخيل الصمغ العربي والتربية الدينية.
إن سيوارت الذي حرص على هذا المبدإ الانقسامي بجعله الزوايا وحسان مجموعتان عشائريتان منفصلتان- ونسجل هنا عشائريتين- قد وقع لحرصه على هذا المبدإ الانقسامي أكثر من المبدإ المعرفي في خطإ معرفي وتاريخي كبير وهو أن مجموعة الزوايا هذه تضم عددا من القبائل ليس على أٍساس نسبي وقرابي كما كان يعتقد بل على أساس ديني وأيديولوجي بالدرجة الأولى ، نجد مثلا قبيلة إيديقب (بتسكين الياء وفتح القاف وتسكين الباء) التي تشكل عنصرا قويا من حلف “تشمشة” (قاعدة الزوايا الأساسية) تنتسب سلاليا إلى مجموعة بني حسان المحاربة والأمثلة في هذا الجانب كثيرة ، ونفس الحالة متوفرة في جانب حسان إذ نجد في هذا الإطار إمارة إدوعيش صاحبة السلطة الزمنية ترجع إلى أصل مرابطي وهو الأصل الذي شكل قاعدة الزوايا مع الإمام ناصر الدين خلال القرن السابع عشر الميلادي مما يثبت أننا في هذا المجتمع لسنا أمام مجموعات عشائرية انقسامية بل أمام أنظمة سياسية ذات أبعاد إيديولوجية تتجاوز القرابى إلى السياسي في شكل جنيني للدولة ظهر مع الإمارات والتشكيلات القبلية الأخرى التي تسمو على الطرح الانقسامي بقاعدتها السياسية القوية وحنينها إلى بلورة سلطات مركزية تسهر على حراسة الدين والدينا.
إن خطأ استيوارت آنف الذكر أدى إلى خطإ تظهره الوقائع الحية للتاريخ الاجتماعي الموريتاني وهو إخفاؤه للتراتب الحاصل بين أصحاب السلطة الزمنية ( أصحاب الشوكة ) والزوايا ؛ وهوالتراتب الذي غذته سلطة الأمراء وساعدت في استمراريته بدرجة لا نكون معها في هذا المجتمع أمام “تقابل تكامليّّ” بل أمام تراتبية اجتماعية وسياسية تتدرج إلى أعلى من الشرائح التابعة ثم الزوايا ثم المحاربين أصحاب السلطة الزمنية المهيمنة.
إن كل هذه التصورات النظرية وغيرها تلتقي في إطار واحد وهو نزوعها إلى تشكيل قوالب نظرية و مفاهيمية جاهزة بالغة التجريد([22]) تذوب في نطاقه لحمة الوقائع وتنتفي في إطاره الفوارق والخصوصيات القائمة بين مجتمع وآخر دون أنتنظر مباشرة إلى الواقع ومتابعته بشكل علمي وموضوعي والتأكد مما تشتمل عليه من ظواهر متنوعة للمجتمع المدروس ،هذا بالإضافة إلى التغافل عن الأبعاد الأيديولوجية للجينالوجيا التي اتخذها الطرح الانقسامي إطارا عاما تنتظم داخله المجموعات القبلية.
إن هذا التغافل الذي يتجاهل أن القرابة وإن كانت تحقق وحدة الجماعة إلا أن المستفيد الرئيس في الأخير ليس أعضاؤها بل فقط العائلات المتحكمة سياسيا في شؤون تلك الجماعة،ذلك أن المجموعات القبلية في موريتانيا كما في أي مكان آخر ليست متجانسة ولا متشابهة كما يدعي ذلك الانقساميون، بل هي مجتمعات تراتبية تحمل في ذاتها عناصر كثيرة من التمايز والصراع من أجل السيطرة والتحكم .إنها مجتمعات ذات نظام سياسي واجتماعي واقتصادي له دوره البارز في الحرب والسلم والحركية والتغير، كما أن الطابع السلمي الذي أفرط الانقساميون في إضفائه على الزوايا والصلحاء،([23]) بل على كل ما هو ديني يجد نفسه منكسرا على صخرة الواقع والموروث التاريخي للمجتمع الإسلامي الذي يشهد أكثر من مرة على الفتوحات المكثفة التي دشنها المسلمون باسم الدين سلما وعنوة كما يشهد على ذلك متابعة هذه الوقائع الجهادية في مختلف أشكالها وأحجامها في كل مكان.
إننا هنا لا نحاول أن نكون بموقف المدافع عن الذات بقدر ما نحاول أن نكون مدافعين عن وقائع عينية رسمت آثارها في مختلف أنحاء العالم، وإن كانت كل هذه المآخذ وغيرها لا تستطيع إنكار الدور الذي لعبته هذه الدراسات في إثارة الإشكاليات واستجلاء بعض الخصائص لكن دون أ ن تقدم تفسيرا وفهما دقيقين لهذه الظواهر الاجتماعية يتجاوز مستوى الوصف إلى مستوى التحليل كتلك التي يمكن العثور عليها في بعض الدراسات التي تناولت هذه المجتمعات التقليدية بنوع من الدقة المنهجية والعلمية مثل الكتابات الفيبيربة المتعلقة بأنواع السيطرة وغيرها. فما هي هذه الدراسات إذن؟ وكيف ينظر من خلالها ماكس فيبر إلى الظاهرة القبلية؟ وإلى أي حد يمكن الاستفادة منها في مقاربة القبيلة الموريتانية في تجلياتها السيطرية المختلفة؟.
2 –المقاربة الفيبيرية:
في الفصل الثالث من كتابه (Economie et société) سجل ماكس فيبر أشكالا مختلفة لعلاقات اجتماعية وسياسية أفرزتها أنواع السيطرة المختلفة في المجتمعات البشرية من خلال علاقة الحكم والخضوع أسماها بأشكال المشروعية، لكون كل سيطرة تقليدية كانت أم عقلانية تسعى دائما لأن تكون مبررة لوجودها السلطوي بمشروعية ما تجعل الآخرين يتقبلونها برضى ويرونها ضرورية ولازمة لاستمرار حياتهم السياسية والاجتماعية، وهي السيطرة القانونية والسيطرة التقليدية والسيطرة الكاريزمية فما هي الأنواع إذن ؟
أ ـ السيطرة القانونية :(Domination légale)
و تتميز ببعدها العقلاني الذي يتوفر بالدرجة الأولى في الدولة الحديثة التي أنتجتها الحضارة الغربية عن طريق إنتاج سياسة حديثة وكذا اقتصاد وقانون عقلانيين في إطار ولادة بيروقراطية مُمَأسسة ستكون الأداة الفعلية للدولة المعاصرة[24]. يقول ماكس فيبر “نقصد بالدولة، منشأة سياسية سمتها مؤسساتية طالما أن إشرافها الإداري يطالب بالنجاح في تطبيق القوانين باحتكار العنف المادي والشرعي[25] وذلك ب”نزع ملكية السلطات الخاصة المستقلة التي تمسك إلى جانبها بسلطة إدارية”[26]. مما يجعل ولادة الدولة الحديثة تتميز بنهاية السلطات الوراثية التي تميز المجتمع التقليدي، وظهور جهاز بيروقراطي معقلن متسم بالخصائص التالية[27]:
1 – أن تكون الأحكام والقوانين العقلية هي المحددة لواجبات ووظائف الأدوار الإدارية في المؤسسة أو أجهزة الدولة، وهي الأدوار التي يجب أن تكون متخصصة يحتلها موظفون مؤهلون عقليا وأكاديميا؛
2 – أن تكون هذه الأدوار الإدارية على شكل مراتب متسلسلة تبعا لمستوى سلطتها وقوتها الإدارية؛
3 – أن تعتمد الإدارة والأجهزة البيروقراطية على وثائق ومهام لا يمكن أن يستفيد منها إلا من حصل على تدريب ودراسة خاصة في شؤونها؛
4 – ينتج عن ذلك عدم تعيين الموظفين إلا على أساس مؤهلاتهم الفنية وقابلياتهم التي اكتسبوها عن طريق الدراسة أو التجربة والخبرة؛
5 – لا يمتلك الموظف مركزه ولا الأدوات التي يستعملها في تنفيذ واجباته بطريقة وراثية.
6 – يخضع الموظف لقوانين المؤسسة التي يعمل فيها.
7 – يتقاضى راتبا مطابقا أو ملائما لكفاءته ومركزه الإداري، وله مطلق الحرية في أن يترك عمله هذا عن طريق الاستقالة في أي وقت يناسبه.
وباختصار شديد فـ”إن فكرة الدولة كما بينها فيبر ستكون مربوطة بإزالة ذاتية العلاقات بين الأفراد”[28] وولادة الاقتصاد النقدي الذي يسمح بتدمير كل شكل تقليدي للسلطة وإحلال الأجور النقدية المنتظمة محل الأجور العينية المرتبطة باقتصاد الكفاف.
ب: السيطرة التقليدية:
تستمد هذه السيطرة مشروعيتها من الخضوع لسلطة شخص وضعته التقاليد فوق الجماعة نظرا لطبيعته المقدسة ولما يملكه من مؤهلات تتوارث عبر الزمن. إن حكم الرئيس في هذه السيطرة حكم فردي، والخضوع لشخصيته هو خضوع في ذات الوقت للتقاليد التي نصبته وليس لجهاز معين. يقول ماكس فيبر: “إننا نسمي سيطرة ما بأنها تقليدية عندما تكون شرعيتها مسلما بها ومستندة على المعيار المقدس للتصرفات [والأحكام] المنقولة عبر الزمن (وجودها دائم) وتستمد قوتها من خلال الرئيس. إن مستلم السلطة ( ومستلمي السلط المختلفين) معروف بموجب نظام منقول نطيعه بموجب العزة والشرف الشخصي الذي منحته له التقاليد([29]).
هكذا يرى ماكس فيبر بأن هذه السيطرة التقليدية المتعمدة على التقاليد الموروثة عبر الأجيال قد اتخذت أشكالا مختلفة في التاريخ، أولها سلطة الشيوخ La Gérontocratie وهي تلك التي تمارس سيطرتها بشكل عام على مجموعة اجتماعية عن طريق الشيوخ الأقدم سنا والذين يعززون سيطرتهم هذه كلما كانوا أكثر معرفة للتقاليد المقدسة للمجموعة وتاريخها([30]) وثانيها السيطرة البطريركية patriarcalisme التي تخول السلطة لكبير العائلة التي يسلمها بدوره لخليفته بعد الوفاة . إنها إذن تلك الوضعية التي في إطارها تخول السلطة لشخص واحد معين (عادة) تبعا لمعايير وراثية محددة([31]) ، إن أدنى مراتب هذه السلطة إذن هي البطريركية التي تمارس نشاطها فقط داخل الأسرة – كما يوجد حسب فيبر لدى شيوخ العرب([32]) ومع ظهور قيادات إدارية وعسكرية ذات أبعاد شخصية خالصة متمثلة في مستلم السلطة فإن السلطة التقليدية ستنزع إلى البيتريمونيالية وإلى قمة سلطة السيد وإلى السلطة [ص 237] التي يحكم فيها الملك بواسطة حاشيته المكونة من موظفين ووزراء كما يخضع القانون في هذا النظام وفي معظم الأحيان لرغبة الحاكم ، وبتعبير أكثر دقة نستطيع القول إنه عندما يتوسع نطاق النظام البطريركي ويتم تطويره وتوزيع جهازه الإداري التقليدي فإن البيطريركية تتحول إلى باتريمونالية ويتحول أعضاء العائلة الممتدة سالفة الذكر إلى رعايا تابعين.
إن السلطة السياسية في هذا الإطار ستكون ممركزة حول السلطة الشخصية للزعيم الأعلى كما ستصبح حاشيته مكونة على أساس محددات ومعايير شبه عائلية مثلما تصبح هبته اللدنية تقليدية ومقبولة من طرف الجميع وكذا ميله لتطبيق أساليبه الشكلية والتي ليس لها طابع مؤسسي إلا على نحو ضيق. هذه هي المميزات الرئيسة للحكم المتبلورة من خلال شخصية الأمير، بحيث تصبح المصالح الإدارية كما يضيف عبدالله ساعف([33]) مراقبة من طرفه بشكل كلي، وتصبح الدولة ملكا له، وهو الذي يختار الوكلاء المعتمدين بطريقة تقديرية ويقرر وحده في الهرمية والتوجيه وكذا في السيطرة على “التململات” فيبدو الحكم كامتداد لشخصية الزعيم وتبدو شبكات العلاقات الشخصية أكثر أهمية من المؤسسات والتنظيمات الشكلية، ويحتفظ الزعيم بأكبر قدر من المعلومات في الحالة الأولى وبأقصى حد من الحرية حيال الثانية… أما الجماعات فتعيش باستمرار في حالة انقسام وتوازن متجدد….” ([34]).
ج ـ السلطة الكرزماتية:
لا تستمد السلطة الكرزماتية مشروعيتها أثناء التأسيس من المعايير القرابية المتوارثة بل من الخصائص الاستثنائية والخارقة للعادة التي يعتقد الناس توفرها لدى شخص معين كامتلاكه لقدرات روحية أو فكرية خاصة وكذا قدرته على الزعامة والتي لا تستمد من النظم القانونية والشرعية بقدر ما تستمد من قابليته على كسب وإرضاء الناس والتفافهم حوله وخضوعهم لرسالته،لكن رغم ذلك فإن السلطة ستظل تنعرج إلى ما هو تقليدي وتتخذه كأساس لكن بعد نجاحها وازدياد مؤيديها وأنصارها وقوتها المادية، سواء كانت دينية أو إصلاحية أو ثورية فإنها ستتجه إلى تكوين أجهزة إدارية وأموال مستمرة وأتباع وكذا قوة قد تكون عسكرية تستخدم في دعم قوانينها وإجراءاتها في ممثلياتها المختلفة مما يؤدي بهذه السلطة إلى فقدان صفتها الكاريزمية وتتحول إلى قيادات دستورية شرعية في جو من الرتابة تسمى بالرتابة الكاريزمية التي تبتعد عن طريقها السلطة عن الأصل الذي اكتنفها والظروف الأساسية التي ساعدتها على استلام مركز القيادة([35]).
لكن ما تنبغي الإشارة إليه في هذا المجال خصوصا بعد الانتقال من المقاربات النظرية إلى المناهج العلمية في الدراسات الاجتماعية و الأنثروبولوجيةهو أهمية الفروض في هذا الإطار على اعتبار أنها هي البداية الفعلية التي تنشأ في ذهن الباحث ليبرهن عليها و يحقق مصداقيتها أو عدمه في علم من العلومأو من خلال دراسةأو بحث علمي، فهي حلول محتملة يعتقد فيها الباحث بعض النتائج المفترضة حتى يتم تجميع براهينه ليؤكد صحة هذه الفروض أو عدمها ، فما هي الفروض إذن ؟
ثالثا: الفرضية العلمية :
الفرضية هي نظرية تحتاج إلى برهان ، وهذا البرهان لا يتم إلا عن طريق التجربة ، وهذه التجربة لا تكون ذات مصداقية إلا إذا كانت علمية أو بمعنى آخر فإن الفرض أو الفرضية أو الافتراض يعني شيئا أقل تأكدا من الحقيقة ،بمعنى أنه لا يتطرق إلى ذهن الباحث من فراغ أو بطريقة عشوائية بل يأتي نتيجة معلومات و بيانات سابقة استنبط الباحث افتراضه منها ، أي أن الفرض العلمي ليس مجرد تخمين بل يبنى على المعرفة العلمية والدراسة. و هناك بعض الخطوات التي يستطيع الباحث استخدامها للوصول إلى فروض جيدة ،فما هي هذه الخطوات؟ 1ـ خطوات الفروض :
هناك مجموعة من الخطوات التي يستطيع الباحث استخدامها وهي :
أ ـ أن يقوم الباحث بتجميع تمهيدي للبيانات التي يعتقد بأنها ترتبط بالمشكلة التي هو بصدد بحثها، ويستخدم تعليقاته الاستنباطية لكي يصل إلى استنتاج تمهيدي أو حل محتمل ، ومن القواعد المألوفة في البحوث و خاصة البحوث المركبة أن يصوغ الباحث افتراضا لكل مشكلة فرعية تدخل في نطاق موضوع البحث
ب ـ و بما أن فروض البحث ليست غير توقعات للنتائج او استنتاجات محتملة ، فيجب أن يصوغ الباحث فروضه في صيغة المضارع ، وإذا ما أسفرت الدراسات عن نفي فرض ما فذلك لا يعني خطأ الدراسة أو التقليل من قيمتها بل تعتبر نتيجة علمية مثل النتيجة التي تم إثباتها تماما .
ج ــ بعد أن يتبنى الباحث فرضا أو عدة فروض يعتبرها اكثر الإجابات احتمالا فينبغي ان يقرر ما يجب ان يترتب منطقيا على التعميم الذي يقوم باختياره
د ـ وبعد أن يقرر الباحث أي نوع من البيانات يجب أن يبحث عنه يتقدم إلى اختيار الفروض ، وهنا لا بد له أن يأخذ بعين الاعتبار عاملين أساسيين : أولهما البعد الزمني للظاهرة المدروسة ، وثانيهما : غرض الباحث من البحث أي ماذا يريد من النتائج التي سيتوصل إليها
فإذا كان البحث يتصل بالماضي يأخذ الباحث الاتجاه التاريخي في اختيار فروضه ، وإذا كان البحث يتصل بمشكلة معيشة في الحاضر يلجأ الباحث للمنهج الوصفي ، وفي حالة ما إذا كانت فروض البحث ترتبط بسؤال عما سيحدث في المستقبل أو كيف يغير واقعا معينا فمن المألوف أن الباحث سيلجأ إلى الاتجاه التجريبي فما هي هذه المناهج إذن ؟
رابعا : نماذج منهجية
1 ـ المنهج التاريخي :
أ ـ تعريفه :هو عملية استرجاع للماضي تمكن من قياس الظاهرة و درجات تغيرها ومستوى تحولها ؛ وهو منهج علمي مرتبط بمختلف العلوم الأخرى حيث يساعد على معرفة جميع ملابسات الموضوع المدروس وكذا ماضيه وحاضره وكيفية استشراف مستقبله .
ب ـ خصائص المنهج التاريخي :
يختص المنهج التاريخي بعدة خصائص نقدمها على النحو التالي :
- اعتماده على ملاحظات الباحث
- تجاوزه للوصف إلى البحث والتحليل
- اعتماده على الزمن لقياس الظاهرة
- شموليته
- مساهمته في حل المشاكل المعاصرة إذا ما عرفت أسبابها التاريخية
ج ـ أهداف المنهج التاريخي :
- التأكد من صحة حوادث الماضي بوسائل علمية
- الكشف عن أسباب الظاهرة بموضوعية على ضوء ارتباطها بما قبلها أو بما عاصرها من حوادث
- ربط الظاهرة التاريخية بالظواهر الأخرى الموالية لها والمتفاعلة معها
- إمكانية التنبؤ بالمستقبل من خلال دراسة الماضي
- التعرف على نشأة الظاهرة وأسبابها
د ـ خطوات المنهج التاريخي
- اختيار موضوع البحث : ويقصد به تحديد مكان وزمان الحادثة أ و الواقعة التاريخية
- جمع المعلومات وبيانات المادة التاريخية وتنقسم إلى قسمين :
*المصادر الأولية : و تتمثل في المخطوطات و السجلات ،الوثائق ،الآثار ،المذكرات الشخصية ،محاضر اجتماعات
*المصادر الثانوية : و هي المعلومات غير المباشرة والمنقولة التي تؤخذ من المصادر الأولية كالجرائد و الصحف و المراجع و التسجيلات الإذاعية والتلفزيونية
- نقد المصادر : وهي مرحلة مهمة في البحث التاريخي ، حيث يجب التأكد من صحة المعلومات ليكون البحث أكثر مصداقية وفي ذلك يقول ابن خلدون : ” و كثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات و الوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها و لا سبروها بمعيار الحكمة و الوقوف على طبائع الكائنات و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال و العساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب و مظنة الهذر و لا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد …” ويكون النقد خارجي و داخلي
*النقد الخارجي : وهو نقد يتم فيه التأكد من صحة الوثيقة محل البحث و ينقسم بدوره إلى نوعين :
- نقد التصحيح : ويتم التأكد فيه من صحة الوثيقة و نسبتها إلى صاحبها ومدى خلوها من الحشو و التزييف أو التحريف خصوصا إذا كانت الوثيقة متعددة النسخ
- نقد المصدر : و فيه يتم الـتأكد من مصدر الوثيقة و زمانها ومؤلفها من أجل التأكد من مصدر الوثيقة و زمانها ومؤلفها للتأكد من نسبيها لصاحبها وذلك من خلال :
ـ التحليل المخبري :و يضم دراسة الخط و اللغة المستعملة بالإضافة إلى التحليل بالأدوات الخاصة بذلك كالفحم المشع للوثائق الكربوهيدراتية ولكل مادته وأساليبه الخاصة.
ـ فحص الوقائع :الوارد ذكرها في الوثيقة و مقارنتها باحداث العصر المنسوبة إليه
*النقد الداخلي : ويقصد به التحقق من معنى الكلام الموجود بالوثيقة سواء المكتوب حرفيا أو المقصود بطريقة غير مباشرة وينقسم بدوره إلى قسمين :
- النقد الإيجابي : و يهدف إلى تحديد المعنى الحقيقي و الحرفي للنص وما يرمي إليه ، هل حافظ على نفس المعنى في الوقت الحالي أم لا ؟
- النقد السلبي : وفيه يتم التحقق من رؤية الكاتب لمشاهدة الوقائع بدراسة مدى خطإ أو تحريف الوثيقة وكذلك مدى أمانته في نقل الواقع والتأكد من سلامة جسمه وعقله وكذا دراسة السبب الذي أدى به إلى كتابة هذه الوثيقة.
- ـ تحليل الحقائق و تفسيرها وإعادة تركيبها بأمانة وموضوعية ، وهنا يتم تحليل الظاهرة الراهنة موضوع الدراسة في ظل الحقائق التي تم جمعها و التنسيق بين الحوادث ومن ثم تفسيرها .
- استخلاص النتائج وكتابة التقرير النهائي، وهي المرحلة النهائية .
2 : المنهج الوصفي :
أ ـ مفهومه :هو المنهج الذي ينصب على وصف ظواهر اجتماعية أو ظواهر فردية و جمع المعلومات و الملاحظات حولها ، مع وصف الظروف الخاصة بها و إبراز حقيقتها الراهنة كما هي عليه في الواقع
ب ـ خطوات المنهج الوصفي :
يعتمد المنهج الوصفي على مجموعة من الخطوات يمكن إجمالها فيما يلي :
ـ تحديد المشكل المدروس
ـ وضع الفروض
ـ اختيار العينة
ـ اختيار الأدوات الملائمة لجمع البيانات
ـ القيام بملاحظات موضوعية
ـ وصف النتائج المستخلصة وتحليلها و تفسيرها بلغة واضحة وسليمة و بعبارات محددة
ج ـ خصائص المنهج الوصفي :
يختص المنهج الوصفي عن غيره من المناهج بعدة خصائص نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
- أنه يقدم معلومات وحقائق عن واقع الظاهرة المدروسة في وقتها الرهن
- أنه يقدم توضيحا عن العلاقة بين الظواهر المختلفة المرتبطة بالظاهرة المدروسة
- أنه يساعد على التنبؤ بمستقبل الظاهرة نفسها ،…
د ـ مرتكزات وأسس المنهج الوصفي :
يرتكز المنهج الوصفي على مجموعة من المرتكزات والأسس نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
- إمكانية استخدام مختلف الأدوات للحصول على البيانات بشكل دقيق وواضح كاستخدام الملاحظة و المقابلة و الاستبيان وتحليل الوثائق والسجلات وغير ذلك من الوسائل والأدوات
- قدرته على وصف الظاهرة المدروسة ودراستها كميا وكيفيا
- ضرورة اختيار عينة ممثلة للمجتمع المدروس
- ضرورة اصطناع التجريد خلال البحث الوصفي من أجل تمييز سمات الظاهرة المدروسة عن غيرها وذلك لتداخل الظواهر الاجتماعيةهـ ـ أنماط الدراسة الوصفية :
يتضمن المنهج الوصفي عدة أساليب وأنماط تتلخص فيما يلي :
- الدراسة المسحية : وتتضمن جمع معلومات للإجابة عن أسئلة تتعلق بالحالة الراهنة لموضوع الدراسة وتتفرع لعدة أدوات هي :
- المسح المدرسي : ويتعلق بدراسة المشاكل التربوية بأبعادها المختلفة قصد تجاوزها وسد ثغراتها
- المسح الاجتماعي : و يتعلق بدراسة الظواهر الاجتماعية في حالتها الراهنة لإحصاء الواقع المعيش من أجل وضع خطط تنموية في المستقبل
- دراسة الرأي العام : وهي دراسة تتعلق بتعبير الجماعة عن آرائها ومشاعرها وأفكارها و معتقداتها نحو موضوع معين وفي وقت معين
- دراسة العلاقات المتبادلة : وهي دراسة تتجاوز الوصف السطحي للظاهرة إلى تعقب العلاقات المرتبطة بهذه الظاهرة بغية الحصول على أبعاد أعمق وتنقسم إلى
- دراسة الحالة : وهي منهج في البحث الاجتماعي يمكن من خلاله جمع البيانات ودراستها بطريقة يمكن معها رسم صورة كلية لوحدة معينة في العلاقات والأوضاع الثقافية والاجتماعية المتنوعة في المجتمع كما تعتبر تحليلا دقيقا للموقف العام للفرد
- الدراسة السببية : وهي الدراسة التي تبحث عن أسباب الظاهرة المدروسة لمعالجتها إن كانت تمثل مشكلا اجتماعيا ينبغي تجاوزه
- الدراسة الارتباطية : وتعنى بدراسة درجات الارتباط بين متغيرات الظاهرة المدروسة وبقية الظواهر الأخرى المؤثرة في وجودها بدرجة أو بأخرى
- دراسة النمو والتطور: وتتعلق بدراسة نمو المهارات وكذا بدراسة النمو الطولي(المراحل العمرية المختلفة ) والأفقي ( مجموعات مختلفة من نفس المرحلة العمرية )
3 :المنهج التجريبي:
أ ـ تعريفه :هو منهج يتميز عن غيره من المناهج الاخرى بإثبات الفروض أو الفرضيات العلمية عن طريق التجربة للتعرف على العلاقات السببية أو العلاقات بين الظواهر المختلفة وذلك بدراسة تأثير متغير واحد مستقل على متغير تابع مع تحييد أثر المتغيرات الأخرى التي قد تتدخل في العلاقة بين المتغيرين الرئيسيين أو بتعبير آخر ذلك الأسلوب المنهجي الذي يستطيع الباحث أن يحقق من خلاله ثلاثة أهداف رئيسة هي:
- التحديد الواضح للمتغيرات الرئيسية التي لها علاقة مباشرة بالظاهرة المدروسة؛
- التحكم الكمي في قيم المتغير المستقل (يمكن الباحث من ملاحظة أثر الزيادة وأثر النقص على المتغير التابع)
- ضبط أو تحديد أثر المتغيرات المشوشة بحيث يمكن تحييد أثرها على العلاقة التي تهتم التجربة بقياسها
ويمكن تصنيف هذا النوع من الدراسة إلى قسمين :
- دراسة معملية: وهي الدراسة أو التجربة التي تجرى في بيئة خاصة تختلف عن البيئة الأصلية للمجتمع المدروس ؛ كالمختبرات العلمية أو مراكز الأبحاث الخاصة بالدراسات الاجتماعية ( كعلم النفس والدراسات السلوكية في علم الإدارة والعلوم السياسية مثلا …)
- دراسة حقلية: ونعني بها تلك التجربة التي تنفذ في البيئة الطبيعية للمجتمع المدروس و هي ما يهمنا في الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية
لكن ما طرق البحث التجريبي؟
بـ طرق البحث التجريبي (29):
في هذا الإطار نرى أنه من الأهمية بمكان التعرض لطرق البحث التجريبي عند جون استيوارتميل في كتابه :
( A system of logic ) التي حاول عن طريقها أن يبن معالم الطرق المختلفة التي يمكن اتباعها في البحث التجريبي للوصول إلى معرفة المسببات الأساسية لهذه الظاهرة أو تلك وكذا نتائجها العلمية الدقيقة وهي :
*ـ طريقة التوافق :وتفترض هذه الطريقة أنه إذا اشتركت الظروف المؤدية إلى واقعة ما في عامل من العوامل وفي كل مرة عند حدوثها فيحتمل أن يكون هذا العامل هو سبب الواقعة بمعني أنه لا يمكن أن يكون عامل ما سببا في حدوث ظاهرة معينة وأن تحدث هذه الظاهرة دون وجوده .
* ـ طريقة التباين : ويفترض هذا المبدأ عند ميل أنه لو تشابهت مجموعتان أو أكثر في الظروف من جميع الأوجه إلا في عامل واحد ، و أن نتيجة معينة تحدث فقط عند وجود هذا العامل ، فمن المحتمل أن يكون هذا العامل هو السبب في النتيجة ؛ أي أن أي شيء لا يمكن أن يكون سببا لظاهرة ما و لا تحدث هذه الظاهرة في حالة وجوده .
*ـ الطريقة المشتركة : لتفادي الصعوبات التي تعاني منها كل من الطريقة الأولى والثانية رأى ميل أنه يمكن إدماج الطريقتين في طريقة واحدة أسماها بالطريقة المشتركة مما يعين على معرفة سبب الظاهرة بقدر كبير من التأكد.
*ـ طريقة المتخلفات : و تتلخص في أن بعض المشاكل لا يمكن دراستها بإحدى الطرق الثلاثة السابقة ومن ثم يستطيع الباحث إجراء عملية حذف . وتستخدم عند فشل الطرق الثلاثة السابقة ؛ بمعنى أنه إذا عرفت العوامل المسببة لجانب من الظاهرة أو بعض جوانبها فإن بقية جوانبها يمكن إرجاعها إلى العوامل الأخرى المتبقية أو المتخلفة.
*ـ طريقة التغيرات المتلازمة : و هي طريقة تستخدم حسب استيوارت ميل في الحالات التي لا تصلح فيها الطرق السابقة ؛ بمعنى أنه عند تغير شيئين بصفة متوافقة و متلازمة فإما أن تكون التغيرات الحاصلة في أحدهما سببها التغيرات الحاصلة في الأخرى، وإما أن يكون التغير في كليهما قد حدث نتيجة عامل مشترك بينهما.
خامسا : خاتمة
وعلى العموم فمع أن كل هذه المقاربات النظرية والمناهج العلمية لها دورها في توجيه الأبحاث والدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية إلا أن دقة نتائجه وصدقيتها يتوقفان إلى حد كبير على دقة الفرضيات ويقظة الباحث وقدرته على التحكم في المواقف و في المتغيرات التي يعيش تأثيرها وكذلك على موضوعية الملاحظة ودقتها وكذامستوى تصميم التجربة بالنسبة للمنهج التجريبي .
قائمة المراجع حسب ترتيب ترقيم الهوامش:
[1]– فراعي (عبد السلام): التربية والتنمية في مغرب ما بعد الاستقلال – حالة التعليم الجامعي (1956 – 1992 ) – (مساهمة في سوسيولوجيا التربية)ـ أطروحة لنيل دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية (تخصص علم الاجتماع ) إشراف الدكتور عبد الجليل حليم ـ 9419-1995 – ج1 ص / ص 18-19.
2ـ نفسه
3ـ للتعمق أكثر يمكن الرجوع لـ:Reigner ( A ) : La crise du langage scientifique éd. Anthropos 1974
- Durkheim «Emil » : De la division du travail social – Paris – 1978.
5 ـبنسالم (ليليا): التحليل الانقسامي لمجتمعات المغرب الكبير – حصيلة وتقييم- الانتروبولوجيا والتاريخ ـ حالة المغرب العربي – ترجمة عبد الأحد السبتي – وعبد اللطيف – دار توبقال ط 1 -1988 ص 11.
6–Durkeim «E » : Ibid – p : 46
7–Durkeim – idem.
8Ibid p :153.
9– ولد الشيخ (عبد الودود) : السلطة والقرابة ـ ج 1 ـ ترجمة السيد ولد اباه ـ حوليات كلية الآداب و العلوم الإنسانية ـ جامعة انواكشوط ـ عدد 3 ص 16.
10.
11ـ ولد الشيخ (عبد الودود)نفس المرجع ص 17
12ـ نتفق مع ولد الشيخ حين أشار إلى أن العبارات التصنيفية ربما لا تناسب الاستخدام الاصطلاحي لدى قبائل النوير: ولد الشيخ ـ نفس المرجع
.
13 –Claude Levy Strauss : Anthropologie STRUCTURALE / PARIS 1958 p- p 174 -175
14 ـ ولد الشيخ(عبد الودود) المرجع السابق.
15 ـ نفس المرجع السابق.
16 ـ بنسالم (ليليا) : التحليل الانقسامي لمجتمعات المغرب الكبير ـ عدد الصفحات 27 /الأنثروبولوجيا والتاريخ – حالة المغرب العربي – ترجمة عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق ـ دار توبقال للنشرـ ط 1ـ ص 19.
17 ـ يستعمل غلنير هذه العبارة “القبيلة الهاشمية” للتميز بين المغرب التي يوجد بها حكم مركزي وبين بعض المجتمعات الافريقية التي تناولتها الدراسات الانتروبوجية وهي مجمعات بدون حكم مركزي.
18- مقال يلخص فيه المؤلف مساهمته الأساسية في الدراسات المغاربية:
– Gelhner : saint of atlas – Doctor and Saint – London – 1969 – p:308.
20– C. C. Stewart : Political authority and social stratification in Mauritanie- in Er. Gellner and a.Micaud / eds : Arabs andBerbers / London 1975/ P P 37-393.
21– ولد الشيخ (عبد الودود) السلطة والقرابة (ج2) نفس المرجع السابق ص 63.
21 –Stewart : Islam and social order in Mauritanie.
22 –Laroui)abdallah(: Les Origines Sociales et Culturelles du Nationalisme Marocain – 1830 – 1912 / PARIS 1977 p : 175.
-: : 23 –Hammoudi Abdellah : segmentarité, stratification sociale : pouvoir polique et saintété , reflexion sur les théses de gellner- hesp vol XV -1974. PP 153-154.
يشير هنا إلى عدم صلاحية الاطروحة السليمة المروجة عن الصلحاء.
24– Weber (Max) : Economie et société – tome1 – édition Plon : 1971 chap III/ P : 232.
25–weber Max / IbId : P : 237.
26 – Idem.
27 عبد الله ساعف ـ عدد الصفحات 4 – مجلة الوفاق – عدد 3 – نوفمبر 1990. ص : 4.
28 –Leca( j ) : « Reformes institutionnelles et légitimation du pouvoir au Maghreb » Développements politiques au Maghreb/ Aménagements institutionnels et processus électoraux –in CRESM /CNRS – Paris 1979- P 12.
29 – معجم علم الاجتماع: تحرير لبروفيسور دينكسميشل– ترجمة ومراجعة : دار إحسان محمد الحسن (دار الطليعة – بيروت) ط 1 1981. ص 44-45 هناك كلمة أو كلمتين أشار إليهما المعجم لا وجود لهما عند ماكس هما : (الخداع والمراوغة) اللتين تعتمدين عليهما السلطة الكرزماتية في نظره (انظر مثلا السطر 16 ـ ص45 من نفس المعجم ، ولإزالة الالتباس يمكن الرجوع إلى
weber( Max) : Economie et société – op cit –N°‘( 4) La domination charismatique et N°( 5) La routinisation du charisme p – p 249 258.
29 ـزيان عمر (محمد ) : البحث العلمي مناهجه وتقنياته ـ ديوان المطبوعات الجامعية ـ الجزائر ـ ط 4 ـ 1983
30 ـ بوحوش ( عمار ) : دليل الباحث في المنهجية وكتابة الرسائل الجامعية ـ المؤسسة الوطنية للكتاب ـ الجزائر ـ ط 2 ـ 1990