مناهج البحث في الفلسفة وعلوم التراث- د.البكاي ولد عبد المالك- ورشة مناهج البحث والتأليف
الموضوع : مناهج البحث في الفلسفة وعلوم التراث
د. البكاي ولد عبد المالك
الخطة :
المحور الأول- تعريف المنهج والحاجة إليه
1- تعريف المنهج
2- الحاجة إلى المنهج
المحور الثاني- أنواع المناهج
المحور الثالث- قواعد المنهج :
أولا- قواعد المنهج العامة
ثانيا- القواعد الخاصة بالمنهج الفلسفي
المحور الرابع – الإجراءات المنهجية :
أولا- البحث والباحث
I- شروط الباحث
II- اختيار موضوع البحث
III- معايير اختيار البحث
IV- الإجراءات البحثية وأخطاء التفكير
1- الإجراءات البحثية
2- أخطاء التفكير
ثانيا – فن القراءة
ثالثا- تحقيق المخطوطات
الخاتمة
مقدمة :
لا تخلو الفلسفة – بحسب الدلالة الشائعة لهذه الكلمة – من أحد أمرين: فهي إما أن تكون علم “خاصة الخاصة”، وهي بذلك ممارسة مغلقة لا يرتادها إلا من له قدم راسخة في المعقولات ؛ وإما أن تصبح “قطارا شعبيا” يركبه الجميع للهروب من الواقع إلى الإمكانيات الواسعة التي يتيحها اللوغوس بالمعنى السوفسطائي للكلمة: أي المداهنة والتلاعب بالألفاظ..
وبين هذا وذاك، أي بين الثراء المفرط والفقر المدقع، ضاع المفهوم الصحيح للفلسفة، وأصبحت كلمة “يتفلسف” مرادفة لكلمة “يتحذلق” و “يراوغ”، وأصبحت “الفلسفة” “حيزا مشتركا” تسمح سهولة كلمة مروره من التحدث فيه دون أن يعترض أحد على ما نقول، لا لشيء إلا لأننا نمارس حقنا الطبيعي، لأننا “نتفلسف” !
وفي تقديرنا أن هذا الالتباس في مفهوم الفلسفة لا يعزى إلى التصور الخاطئ الموجود في أذهان العامة فحسب بل يعزى أيضا في كثير من الأحيان إلى غياب المنهج الواضح الذي من شأنه أن يجعل الفلسفة “علما” دقيقا.
ومن هنا تنبع أهمية هذا البحث الذي يختلف في مضمونه ووسائله المنهجية عن المنهجيات السائدة. فهو ليس سردا لعدد من الوصفات الجاهزة، الجوالة (passe par tout) التي حولت المنهج إلى جسد جامد لا حياة فيه بل يتصور المنهج باعتباره ممارسة ديناميكية تمنح للذات المفكرة وشخصية الباحث دورا محوريا في عملية إنتاج المعرفة . وبالتالي يمكن اختصار الهدف الذي تسعى إليه هذه الورقة في السؤال التالي : كيف نمارس عملية التفكير ؟
المحور الأول – تعريف المنهج والحاجة إليه :
1- تعريف المنهج :
ما الذي يعنيه المنهج على وجه التحديد ؟ المنهج هو قبل كل شيء وكما يدل على ذلك الاشتقاق اللغوي في اللغة اليونانية “طريق” أو “سبيل” (odos) تتجه نحو غاية منشودة.
وفي اللغة العربية هو “الطريق الواضح البين”، إنه مجموع الطرق العقلانية المنطقية التي تمكن من الوصول إلى هدف معين.
وقد عرف في كتب المناهج تعريفا شاملا بأنه : “طريقة يصل بها شخص ما إلى الحقيقة” ، ويدخل في ذلك كل محاولة بشرية للتوصل إلى حقيقة معينة.
ومن أهم تعريفات المنهج أيضا القول بأنه : “طائفة من القواعد العامة التي تنظم المعلومات والأفكار من أجل الوصول إلى الحقيقة العلمية” . وهناك من يصف المنهج بأنه “علم التفكير” أو “طريقة اكتساب المعرفة” ويعني بذلك مجموع الخطوات المنهجية التي ينتهجها الباحث للوصول إلى الحقيقة العلمية التي هي غاية بحثه.
ومن هنا نستطيع الخروج بالتعريف العام التالي : المنهج هو طريقة في تنظيم المعلومات تعتمد على أساس منطقي أو تاريخي أو اصطلاحي خاضع لمفاهيم مقنعة أو متعارف عليها من أجل الوصول إلى الحقيقة أو البرهنة عليها.
2- الحاجة إلى المنهج :
لماذا تكون قواعد العمل ضرورية في مختلف فروع المعرفة ؟ ولماذا المنهج أي مجموع الطرق العقلانية المتبعة لغرض الوصول إلى غاية معينة ؟
يهدف المنهج إلى رسم الطريق للباحثين لممارسة تفكيرهم بطريقة منظمة تؤدي إلى نتيجة معينة. ويقتضى التفكير بطريقة منطقية الخضوع لجملة من القواعد الثابتة واليقينية والابتعاد عن الصدفة والسير العشوائي وهو ما يعرف بالمنهج.
وللمنهج أسباب عديدة تبرر استخدامه : عامة وكونية وخاصة تتعلق بكل حقل معرفي على حدة.
أما فيما يتعلق بالأسباب العامة للمنهج التي تدفع الناس إلى استخدامه فهي أنه لا يبدو حاسما في الأمور النظرية والعلمية فحسب بل وفي كل سلوك حياتي لأن النشاط البشري إذا لم يكن خاضعا لمنهج معين وتخطيط مسبق فإنه يكون في دائما عرضة للفشل ويصدق هذا القول على المهنة وعلى التسيير الاقتصادي وتأليف الكتب وغيرها. ومن هنا فإن فكرة المنهج لا تنحصر في المجال النظري فحسب بل تتعداه إلى تنظيم حياة الإنسان وتدبيرها باعتبار ذلك تجسيدا فعليا لعمل العقل والفكر. فلا حياة ولا عمل ولا ممارسة إلا ويفترض منهجا معينا فالحياة عمل وكل عمل يتطلب خطة ووسائط.
وكما أن المنهج ضروري لأسباب عامة فإنه كذلك ضروري لأسباب تتعلق بطبيعة الممارسة الفلسفية ذاتها التي أصبحت مشوشة في أذهان الكثيرين. وتعود خصوصية هذه الممارسة إلى ماهية الفلسفة ذاتها التي لا تمثل في حقيقة الأمر ضربا من ضروب المعرفة العادية بل ابتكارا للمفاهيم: فالفلسفة تبتكر المفاهيم المجردة وتوظفها. إنها تعمل من خلال بعض التمثلات غير المستمدة مباشرة من الواقع بما هو كذلك . وكما يقول جيل دولوز فإن “الفلسفة تكمن على الدوام في خلق المفاهيم (…) وأما المفهوم فهو الذي يمنع الفكر من أن يصبح مجرد رأي أو مشورة أو مجادلة أو لغو” ([1]) وهو ما يقتضي بالفعل تحديد بعض المبادئ والقوانين التي تحكم عملية التفكير وتوجهها.
المحور الثاني – أنواع المناهج :
من أشهر المناهج المتبعة في العصر الحديث : المنهج الاستدلالي الرياضي الذي عرف به فيلسوف المنهج ديكارت وكذلك اسبينوزا ، والمنهج التجريبي الذي وضع أسسه فرانسيس بيكون وعمقه جون ستوارت مل ، والمنهج التاريخي الذي كان ابن خلدون سباقا إلى اكتشافه ، والمنهج الوثائقي والمنهج الاستقرائي والمنهج الوصفي.
- المنهج التجريبي :
يقوم المنهج التجريبي على التحكم في جميع المتغيرات والعوامل المكونة للظاهرة باستثناء متغير واحد يخضعه الباحث للتبديل والتغيير لقياس نتائج ذلك على اتجاهات الظاهرة في المعمل أو عن طريق التسجيل والملاحظة لمجموعة الدراسة إذا كان الأمر يتعلق بالدراسات الإنسانية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى جملة من العوائق الإبستمولوجية التي تعترض الباحث في حقل الدراسات الإنسانية ومن أهمها عدم حياد الموضوع كما هو الشأن في العلوم الطبيعية وتمتعه بالإرادة والاختيار مما قد يكون له انعكاس سلبي على مسار التجربة.
ويمكن الاستفادة من المنهج التجريبي في العلوم الإنسانية في جمع البيانات واختبار الفروض …إلخ.
2- المنهج الاستدلالي الرياضي :
وفي هذا المنهج يقوم العقل بترتيب قضاياه انطلاقا من أمور متفق على التسليم بصحتها لوضوحها وتميزها وهي الأوليات التي يقبلها العقل وفقا لمعيار البداهة العقلية أي الأمور التي وصلت من البداهة والوضوح مستوى لم يعد في الإمكان الشك فيها.
وقد عرف الفلاسفة المنهج الاستدلالي الرياضي بأنه انتقال الذهن بطريقة منطقية ودون الحاجة إلى التجربة من قضية أو عدة قضايا مسلم بصحتها إلى قضية أو قضايا أخرى تنجم عنها بالضرورة. وينقسم المنهج الاستدلالي الرياضي إلى :
أ- البديهيات : وهي القضايا البينة بذاتها ، الصادقة بالضرورة وبالتالي لا تحتاج إلى برهان ، نبرهن بها ولا نبرهن عليها مثل : الكل أكبر من الجزء ، والمساويان لثالث متساويان ، والشيء يساوي نفسه.
ب- المسلمات والمصادرات : وهي فروض أو قضايا غير متناقضة نسلم بها دون المطالبة بالبرهان عليها وهي أقل وضوحا من البديهيات مثل : المتوازيان لا يلتقيان ، ومن نقطة خارج المستقيم لا نستطيع أن نرسم سوى مستقيم واحد يوازيه، كل الزوايا القائمة متساوية ، ومجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين …
والفرق بين البديهيات والمسلمات هو أن الأولى صادقة بالضرورة العقلية ، واضحة بذاتها، أما الأخرى فهي أقل وضوحا ولا تفرض نفسها علينا كالبديهيات لكننا مضطرون إلى التسليم بها كأساس أولي للبرهنة.
ج- التعريفات : عرفها المناطقة بأنها الحدود والرسوم الجامعة لصفات المعرف المانعة من الدخول فيه ، وأساس التسليم بها خضوعها لشروط متفق عليها منها :
– أن يدل التعريف على الشيء وحده دون غيره
– أن يكون جامعا لخصائصه الجوهرية والعرضية
– ألا يعرف المعرف بمعرف مساو له في المعرفة والجهل (تحصيل الحاصل)
– ألا يكون تعريفا بالسلب
– ألا يكون تعريفا مجازيا أو ملتبسا
ولا يقتصر تطبيق هذا المنهج على العلوم الرياضية فحسب بل يوجد كذلك في شتى العلوم ومنه القاعدة المعروفة التي تسمى تحديد المفاهيم أي العملية التي تسبق عادة عملية الاستدلال. وكلما كان المفهوم محددا ومعرفا بشكل دقيق كان الوصول إلى النتيجة المتوخاة أقرب وأسهل.
- المنهج التاريخي:
يعرف أحيانا بالمنهج الوثائقي أو الاستردادي أو النقلي. وسمي بالوثائقي لأنه يعنى بالتحقق من الوثائق التاريخية وفحصها ودراستها. فالوثيقة (document)هي الوسيلة التي تمكن الباحث من قراءة أحداث الماضي قراءة موضوعية وذلك من خلال تتبع المراحل التاريخية وصولا إلى الزمان والمكان الذي شهد حدوث الظاهرة. لهذا يستخدم هذا المنهج في تحقيق المخطوطات للتأكد من إثبات صحتها ونسبتها إلى صاحبها كما يستخدم في دراسة الآثار لمعرفة الحقب التي تعود إليها وتحديد عمرها الزمني والحضارات التي تنتمي إليها والتقنيات المستخدمة في إنجازها. ويستخدم المنهج التاريخي في التاريخ الطبيعي وحتى العسكري والسياسي. وسمي بالاستردادي لأنه يرتد إلى الوراء عبر الماضي السحيق لمعرفة تفاصيل حياة القدماء والمدى الذي وصلت إليه علومهم وحضارتهم ليقدم وصفا مجردا أقرب ما يكون إلى الحقيقة رغم أن بعض تفاصيلها تظل غائبة نظرا للقصور في تطبيق ذلك المنهج.
- المنهج الاستقرائي :
يعتمد المنهج الاستقرائي على دراسة أفراد الظاهرة دراسة كلية أو جزئية . والاستقراء نوعان : الاستقراء التام وهو دراسة جميع الحالات الجزئية والانتقال منها إلى القانون العام عن طريق التجربة والاستقراء الناقص وهو دراسة بعض الحالات الجزئية والانتقال منها إلى القانون العام عن طريق التعميم.
والحقيقة أن الاستقراء التام هو أمر يتعذر القيام به في الحالات التي يتعذر على الباحث الإحاطة بها مما يضطره إلى تعميم الحالات التي اختبرها على الحالات التي لم يختبرها وهو ما نجده في العلوم الطبيعية في شكل قوانين مثل : “المعادن تتمدد بالحرارة” مع استحالة اختبار كل الحالات ، كما نجده أيضا في البحوث الاجتماعية والإنسانية عامة في شكل تعميمات إحصائية يتسع فيها هامش الخطأ مقارنة بالقوانين العلمية نظرا للعوائق الابستمولوجية التي ذكرنا آنفا. لهذا السبب يسلك الباحثون الاجتماعيون في هذا الصدد طريق اختيار العينات العشوائية أو المقصودة لكنهم يصطدمون بما يسمى بـ “تمثيلية العينة” أي مدى تعبيرها عن خصوصيات الحقل المدروس بشكل دقيق وشامل.
- المنهج الوصفي :
الوصف هو تسجيل الملاحظات المتعلقة بالظاهرة المدروسة ورصد العلاقات وتصنيفها وبيان خصائصها وقد يكون ذلك في جداول يسميها فرانسيس بيكون بجداول الحضور والغياب. ويكثر تطبيق هذا المنهج في المسح ودراسة الحالة (Etude de cas) اللذين يعتمدان على جمع المعلومات ودراستها دراسة وصفية تعتمد المقارنة والتحليل والتصنيف والتفسير من أجل الوصول إلى نتائج عامة.
- المنهج المتكامل :
وهو المنهج الجامع لخصال المناهج السابقة وفوائدها. فهناك بعض الموضوعات التي تحتاج إلى التأليف بين تلك المناهج وتوظيفها في موضوع الدراسة فيلجأ فيه الباحث إلى الاستقراء والتوثيق والوصف والاستدلال والاستنباط لذلك سمي هذا المنهج بالمنهج المتكامل.
المحور الثالث- قواعد المنهج :
يقوم العمل المنهجي على الخضوع الصارم للقواعد من أجل حل المشكلات والقيام بالاستدلال وتنظيم الأفكار ومع أن هذا العمل ليس سهلا ولا معطى بصفة قبلية ولا يمكن تحقيقه بطريقة سحرية إلا أنه مع ذلك قابل للتحقيق وتحقيقه يتم عن طريق العمل بما يعرف بالقواعد.
فما هي القاعدة ؟
القاعدة هي صيغة موصوفة تدل على الطريق الذي يتعين أن نسلكه للحصول على غاية معينة، إنها عبارة عن قانون يشير في ذاته إلى الإجراءات الخاصة بتطبيقه لغرض الوصول إلى نتيجة معينة.
والقواعد المنهجية هي قواعد إلزامية لسنا مخيرين في الخضوع لها أو عدم الخضوع لها إذا كنا بصدد القيام بعمل علمي . وقد بيّن كانط في مقدمة كتاب “المنطق” أن كل شيء في الطبيعة وفي عالم الموجودات الحية يحدث وفقا لقوانين معينة على الرغم من أنها قد لا تكون معروفة لدينا في بعض الأحيان . ومن هنا فإن الاعتقاد في غياب القوانين إنما يعني فقط أنها مجهولة بالنسبة إليها وتلك أيضا هي حال الممارسة الفلسفية . فالطالب الذي يعتقد أنه لا توجد قاعدة في الفلسفة فذلك لأنه يجهلها لا أكثر ولا أقل . يقول كانط : “(…) وحتى ممارستنا لملكاتنا الطبيعية إنما تتم بحسب قوانين معينة نخضع لها دون أن نعي بذلك في بادئ الأمر (…) إن الفهم حاله حال ملكاتنا الأخرى كلها يختص بأن له عمليات تحكمها قوانين معينة في مقدورنا البحث عنها” ([2]).
أولا- قواعد المنهج العامة :
تحديد المفاهيم :
تستمد القاعدة الأولى من قواعد المنهج مصدرها من عمليات العقل ومما نشاهده في الرياضيات وفي الآداب والقانون وغيرها من ميادين المعرفة حيث يتعين العمل على تعيين حدود كل الموضوعات الفكرية التي نبحث فيها وسائر المفاهيم الأساسية. وتعد قاعدة تحديد المفاهيم وتعريفها حتمية وضرورية وجزءا لا يتجزأ من المنهج. ويمكّننا تحديد معنى المفاهيم المستخدمة ودلالتها من التعرف عليها بشكل جيد ويساعد القارئ في التعرف على حدود الحقل الدلالي للألفاظ التي نستخدمها وقيمتها الحقيقية وهو ما يمنع الباحث والقارئ معا من التيه والضياع في دروب غريبة على الموضوع ومن التأويلات الخاطئة والتفسيرات المعكوسة.
وبما أن المفاهيم هي أسماء العالم ومفاتيح معرفته فإن هذه القاعدة تنصحنا بالدقة في استعمال اللغة إذ لا مكان في منطق البحث العلمي للتعبيرات الضبابية أو المجازية أو الملتبسة أو العبارات العامة غير المحددة .
- قاعدة التحليل :
تفرض الطريقة التحليلية نفسها باعتبارها أداة منهجية ضرورية وحاسمة كما تفرض نفسها أيضا في تدبير مختلف جوانب الحياة. والتحليل هو العمود الفقري في سائر البحوث والأعمال النظرية والتطبيقية. فما الذي تعنيه هذه القاعدة على وجه التحديد ؟
يجب أولا أن نفكك الملفوظ أو النص المقتبس من مصدره إلى عناصره المكونة له لغرض الفهم ومعرفة طبيعة العلاقة التي تربط بين مختلف العناصر المكونة لبنية معينة وآلية اشتغالها ومعرفة القيمة الحقيقية لكل عنصر منها على حدة. وتتمثل الطريقة التحليلية هنا في فصل الأجزاء عن بعضها البعض وفي فهم الروابط التي كانت تحكمها ومن ثم تحضير المواد الأولية للمراحل اللاحقة.
- قاعدة التركيب :
لا قوام للتحليل ولا معنى له دون قاعدة التركيب التي تهدف إلى إعادة تأليف كل معين انطلاقا من عناصره البسيطة . والعمل التأليفي هو بطبيعة الحال قاعدة من القواعد العمة للمنهج وهو يتمثل في إقامة الروابط ومد الجسور والوسائط بين العناصر المختلفة التي تم تحليلها . وتستدعي هذه العملية حضور ذات عارفة قادرة على التأليف والجمع بشكل يظهر ثراء الملفوظ وتنوعه ويكشف عن حواراته الصامتة بطريقة غير تعسفية.
- قاعدة النظام :
قاعدة التركيب لا تنفصل عن قاعدة النظام و النظام هو استعداد أو ترتيب معين يتطابق مع مقتضيات العقل. ويقتضى القيام بعمل فكري معين السير بنظام من الأمور البسيطة إلى الأمور المعقدة. ويمكن اختزال المنهج بكامله في النظام وذلك لأهمية هذه القاعدة التي تعني ترتيب المفاهيم وأجزاء البحث والتدرج في الفكر إلخ . وتتوقف جودة كل ممارسة بشرية نظرية كانت أو عملية على طبيعة النظام القائم بين أجزائها وعناصرها سواء أكان نظام الأشياء أو نظام الأفكار.
- الاعتماد على فكرة محورية :
من أين لنا دقة النظام ووضوحه ؟ لا يمكن أن تظهر دقة النظام ووضوحه إذا لم تكن هناك فكرة محورية أو موجهة للعمل الذي نقوم به . فلا قيمة للتحليل والتركيب إذا لم توحد كلا منهما فكرة محورية. وبناء على ذلك يمكننا صياغة تلك القاعدة على النحو التالي : للقيام بممارسة فكرية قويمة يجب الاعتماد على فكرة منظمة تمكننا من السير بمهارة وتعقل من بداية العمل إلى نهايته، هذه الفكرة هي التي تمنح للعمل بكامله هيكله الفكري وتمنحه وحدته.
- إحداث حركية داخلية في المفاهيم :
معظم الألفاظ في العلوم الإنسانية تدل على مفاهيم وتحيل إلى مشكلات وقلما تكتسي تلك الألفاظ ذات المعاني المتعددة والديناميكية تحديدات ثابتة ومطلقة.
لكن ما المقصود بحركية المفاهيم ؟ تعنى حركية المفاهيم أن اللغة التي نستخدمها يجب أن تؤدي إلى حركية عميقة للفكر بشكل يؤدي إلى خلق لمفاهيم جديدة يتوالد بعضها من بعض على نحو طبيعي بعيدا عن التكلف والتعسف في استعمال اللغة. وتؤدي هذه العملية المنهجية الحاسمة إلى نسق معين من التفكير المنظم يخضع لنمو طبيعي عقلاني ومتدرج يساعد في التوصل إلى حقائق معينة ليست بديهية ومن ثم إلى إقناع القارئ.
جدول مختصر لقواعد المنهج العامة والأساسية:
ما يجب القيام به | ما يجب تحاشيه | ت |
إعداد تعريفات تهدف إلى توضيح كل المفاهيم الأساسية | العمل دون تحديد واضح للألفاظ والمفاهيم | 1 |
تحليل كل ملفوظ وتفكيكه وإعادة تركيبه مع توضيح عناصره المكونة له | العمل دون إظهار الاختلاف | 2 |
إعداد بعض الوسائط والجسور بين المفاهيم | نسيان فكرة الربط بين المفاهيم | 3 |
البحث في كل عمل فلسفي عن فكرة محورية هي بمثابة الروح التي
تمنح الحياة والحركة لمختلف أجزاء العمل بالإضافة إلى إحداث حركية داخل المفاهيم |
تشتيت الأفكار والتقريب بين الفقرات والأجزاء
أو دمج بعضها في بعض |
4 |
العمل وفقا لنظام عقلي | التفكير والعمل في غياب التنظيم أو التدرج في
الفكر |
5 |
اتباع قاعدة “التساؤل” مع مساءلة كل مفهوم على حدة | البقاء على مستوى التحليل “الوصفي” التقريري ،
أو “الوثوقي” الدوغمائي |
6 |
القيام بالأشكلة : بالصعود من الأسئلة إلى المشكلة الرئيسة | نسيان المشكلة الفلسفية الرئيسة(الخروج عن
الموضوع) |
7 |
إنجاز نشاط تأملي شخصي يؤكد حضور الباحث وتحكمه في مجريات
الأمور |
“التلاشي” أو الذوبان في الموضوع وغياب
شخصية الباحث |
8 |
ثانيا- القواعد الخاصة بالمنهج الفلسفي :
القواعد الخاصة بالمنهج الفلسفي هي بالأساس : الإشكالية والتأمل.
1- الإشكالية :
الإشكالية هي فن الكشف عن المشكلة الفلسفية ومحاولة تقديم حلول لها. وتتكون الإشكالية في الأعمال الفلسفية من عناصر أربعة هي : التساؤل والمشكلة الفلسفية والرهان والخطة. وهذا العنصر الأخير لا وجود له في ذاته وإنما هو بمثابة التجسيد الفعلي لغيره من العناصر و القواعد .
1.1- التساؤل :
يتمثل العنصر الأول من عناصر الإشكالية في التساؤل . والتساؤل هو قاعدة أساسية من قواعد المنهج الفلسفي وبدونه لا وجود للعمل الفلسفي بالمعنى الدقيق للكلمة. ويعنى التساؤل اعتماد أسلوب الأشكلة (la problématisation) أي تحويل الصياغة من شكلها التقريري إلى الطابع الإشكالي الاستفهامي وتحويل ما يظهر في طابع البداهة إلى مشكلة تتطلب الحل. ذلك أن التفلسف هو عبارة عن البحث عن المشكلة وراء الملفوظ والسؤال خلف الإثبات والصعوبة في البداهة الظاهرة ومعلوم أن الأسئلة في مجال الفلسفة أهم بكثير من الأجوبة.
وعندما نعود إلى تاريخ الفلسفة نجد أن هذه قاعدة التساؤل تتجذر في حقل نشأة الفلسفة تاريخيا . فقد تميز القول الفلسفي لدى اليونان خلال القرن الرابع قبل الميلاد بهيمنة التساؤل حيث سعت الفلسفة منذ بداية نشأتها إلى التساؤل عن أصل الكون والبحث عن مبادئ تفسيرية للطبيعة. فكان طاليس وانكسمندر وانكسمانس وغيرهم قد أحلوا التفسير العقلاني محل التفسير الأسطوري لنشأة الكون . واستطاع سقراط بعد ذلك أن يضع السؤال الفلسفي في مجراه الصحيح فكان يوجه الأسئلة إلى محاوريه وهي أسئلة أنطولوجية ومعرفية وميتافيزيقية وأخلاقية وسياسية وجمالية غالبا ما تتعلق بالماهية أو الجوهر مثل “ما هي العدالة ؟” “هل يمكن تعلم الفضيلة ؟” و “ما هو الجمال ؟”…وغيرها من الأسئلة التي توضح أهمية التساؤل في عملية التفلسف. وإذا كان الأسئلة السقراطية سهلة في الظاهر في مقدور أي كان الإجابة عليها إلا أنها كانت غالبا ما تجعل محاوريه من السوفسطائيين وغيرهم في ورطة عندما يحاولون الإجابة عنها لماذا لأنهم لم يكونوا يعتقدون أنها تحمل دائما في طياتها مشكلة معينة وهي سؤال الماهية وهكذا كانت الأسئلة السقراطية تؤدي دائما إلى معضلات فلسفية حقيقية من الصعب حلها وتجاوزها.
ويهدف التساؤل في الفلسفة إلى غايتين:
– الأولى هي بيان المشكلة الفلسفية التي تمثل بؤرة العمل الفلسفي ومنطلقه
– الكشف عن سلاسل الحجج والاستدلالات اللاحقة من خلال إعداد شبكة عريضة من التساؤلات المنظمة ومحاولة الإجابة عليها.
بناء على ذلك يتعين على الباحث في كل موضوع فلسفي إعداد شبكة من التساؤلات المنظمة المترابطة التي تعبر عن المشكلة الفلسفية في موضوع الدراسة. ويجب أن تكون تلك الشبكة التساؤلية نابعة فعلا من الموضوع وليست اعتباطية يتم إسقاطها عليه بطريقة تعسفية ويتعين على الباحث خلال تنفيذ الخطة الإجابة عن تلك التساؤلات بطريقة منظمة وعقلانية غير وثوقية وهو ما سيسمح للعمل بالحصول على هيكل متكامل.
2.1- المشكلة الفلسفية :
أما العنصر الأساسي الثاني من عناصر الإشكالية والمنهج الفلسفي الأصيل فهو المشكلة الفلسفية فما المقصود بالمشكلة ؟
المشكلة هي مساءلة السؤال ذاته أو سؤال الأسئلة أو المعضلة الكبرى التي تقلب كل البديهيات والتوقعات وتتمنع على الحلول البسيطة والجاهزة. فالمشكلة الفلسفية ليست صعبة فحسب بل لا سبيل إلى حلها بشكل جذري ونهائي : فهي تعبر عن السر أو الفكرة المستترة في ما وراء السطور. ومن طبيعة المشكلة الفلسفية أن تكون غير قابلة للتحجيم أو التفتيت أو التجاوز بشكل نهائي.
والأشكلة من منظور فلسفي هي الصعود من جملة التساؤلات الجزئية المنظمة إلى المشكل الذي يشكل صلب الموضوع . ومن هنا فإن المشكلة الفلسفية تتمثل في ربط التساؤل الفلسفي لا بصعوبة ظرفية أو مؤقتة بل بمعضلة فلسفية حقيقية تسلط الضوء على جوانب الموضوع كلها ضمن كل واحد منسجم ومتناغم.
3.1- الرهان :
كل عمل فلسفي يقتضي المراهنة على نموذج نظري يرى الباحث أنه يقدم الحل الأمثل للمشكلات التي يثيرها الموضوع ، كما يقتضى في الآن ذاته بيان أهمية الموضوع من مختلف النواحي النظرية والعملية وهذا هو ما يسمى بالرهان.
4.1- الخطة :
الخطة هي هيكل العمل وبنيته الذي لا ينبغي أن يكون هيكلا جامدا لا حياة فيه. وتتعدد الخطط بتعدد الموضوعات وتختلف الخطة في الموضوع العام أو الدراسة الشاملة عنها في دراسة موضوعات جزئية. في هذه الحالة الثانية توجد أنواع كثيرة من الخطط منها : الخطة الجدلية والخطة التدرجية والخطة التصورية أو المفهومية وخطة المقابلة بين المفاهيم .
2- التأمل:
لا يمكن للطرق السابقة كلها سواء أكانت عامة مثل التحليل والتركيب والنظام …إلخ أو أكثر التصاقا بالفلسفة مثل الشبكة التساؤلية والأشكلة أن تكتسب دلالة حقيقية إلا من خلال عملية التأمل الفلسفي. وتكمن طريقة التأمل بالمعنى الفلسفي في السير بالموضوعات الخارجية إلى الذات العارفة، أي في ممارسة عملية العودة إلى الذات المفكرة .
ويعرف بول ريكور التأمل بقوله:
“التأمل هو تلك العملية المتمثلة في العودة إلى الذات والتي بواسطتها تستعيد الأنا بوضوح عقلي ومسؤولية أخلاقية المبدأ الموحد للأنشطة التي يتلاشى فيها ويُتناسى باعتباره ذاتا”([3]).
والتأمل هو القاعدة المنهجية الأساسية التي تضفي على العمل أصالته وطابعه الإبداعي ومن البديهي أن قيمة الأعمال العلمية تتفاوت بحضور شخصية الباحث وأفكاره الشخصية وتحليلاته ومقارناته ومختلف العمليات الفكرية التي يقوم بها.
المحور الرابع – الإجراءات المنهجية :
أولا- البحث و الباحث
I – شروط الباحث:
الباحث هو من يبحث عن حقيقة معينة. والبحث عن الحقيقة طريق معقد وشاق لا ينبغي أن يسلكه إلا من توفرت فيه جملة من الخصال النفسية والأخلاقية والعملية نوجزها فيما يلي :
- الاستعداد و الرغبة :
وهما الشرطان الأساسيان للنجاح في أي عمل . فلا يعقل أن يبرع عامل في مهنته وهو لا يرغب فيها. ولهذا يجب أن يشعر الباحث بالميل تجاه الموضوع وألا يكون مفروضا عليه وإلا شعر بالاضطهاد والإكراه وهو ما يؤدي إلى الضجر والملل من أول صعوبة تعترضه. فلا بد أن يكون الباعث الأول والأخير على البحث باعثا ذاتيا نابعا من ميل طبيعي إلى الموضوع واستئناس به ولا ينبغي أن يدفع الباحث إليه إرضاء الأستاذ ولا الأهل ولا حب الحصول على شهادة معينة أو درجة علمية أو غير ذلك.
وإذا كان البحث القائم على مبررات ذاتية أساسها حب الاطلاع والبحث عن الحقيقة واللذة في اكتشاف الجديد يتسم بقابلية الاستمرار والوصول إلى غايته فإن البحث الناجم عن باعث خارجي قد يتوقف أو يزول بزوال ذلك الباعث.
- الصبر والمثابرة :
لا بد أن يصحب الاستعداد والرغبة خصلة أخرى ضرورية هي الصبر فطريق البحث عن الحقيقة طريق شاق وتجربة موشحة بالألم والحزن . وقد قال أحد الفلاسفة الفرنسيين مقولة مشهورة في هذا الصدد وهي : “أنا أعلم أن البحث عن الحقيقة قد يكون مؤلما ولكن انظري يا عين ولا تجزعي” .
والصبر على المشاق والبحث عن الممكن على أنقاض المستحيلات الظاهرة هو شيمة الباحث الجاد الذي لا تعيقه الوحدة وبعد الأهل والولد وضيق الحيلة وشح الموارد وتجهّم من لهم صلة ببحثه ومزاج المكتبي وتقلب الظروف المناخية…عن البحث عن مصادر المعرفة والتنقيب عن أي جزئية مهما كانت أهميتها كالتدقيق في كلام منقول من مصدر أو نحوه ، فلا بد من استغلال الوقت بشكل ناجح والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
- سعة الاطلاع :
إذا كان الصبر عاملا مهما من عوامل النجاح فإن الثقافة وسعة الاطلاع على الأقل في الاختصاص ومعرفة اللغات هي من الأمور المساعدة للباحث في القيام بعمله. فبالمعارف والأفكار الجديدة والخبرات المختلفة تتكون لدى الباحث القدرة على التحليل والنقد والمقارنة ، وباللغات يكون قادرا على الفهم والتعمق في البحث وإثرائه بكل جديد ويكون على اتصال مباشر بتيار العلوم في الثقافات الأخرى ومناهجها وهذه الميزة بالذات هي التي تكسب الباحث طابع الجدة والابتكار.
- الشك المنهجي :
الشك هو الطريق الموصل إلى اليقين وهو الذي يعطي للمعرفة يقينيتها ومعناه ألا نقبل أي شيء ما لم نخضعه لاختبار الشك . والشك المنهجي يختلف عن الشك المذهبي الذي هو شك من أجل الشك ولا يقصد منه اليقين . فلا ينبغي أن يقبل الباحث كل ما يلقى إليه أو ما يقف عليه على أنه حقيقة مسلم بها . يقول ديكارت : “يجب ألا أقبل أي شيء ما لم يتبين بالبداهة العقلية أنه كذلك”.
ومن هذا الباب تحدث ابن خلدون عن قاعدة أساسية من قواعد المنهج التاريخي وهي عدم “الثقة بالناقلين” وهي نوع من التحرر من سلطة السلف وإخضاع المعارف كلها للتدقيق والتمحيص وتحكيم النظر والبصيرة كما يقول.
ومن هذا الباب أيضا نجد أوهام العقل عند فرانسيس بيكون صاحب “الأرغانون الجديد” الذي تحدث عن “أوهام المسرح” وهي كناية عن وقوع الباحث في الإعجاب بمن لهم باع في الميدان مما يفقده القدرة على مراجعة أفكارهم وتدقيقها ويدخل في ذلك الأخطاء التي عمرت طويلا .
لكن في المقابل يجب أن لا يتحول الشك المؤقت إلى حين التأكد من صحة الأفكار والمعارف إلى سوء الظن والإساءة إلى الفلاسفة والمفكرين والكتاب وغياب الروح العلمية.
- الروح العلمية :
تتضمن الروح العلمية جملة من الخصال نوجزها فيما يلي :
– الإنصاف
– الأمانة
– النزاهة
– الموضوعية
– القدرة التنظيمية
– الجرأة
فأما الإنصاف فيقتضي التجرد من الهوى والحكم بمقتضى الحقيقة بعيدا عن التعصب للرأي مهما كانت الدوافع إلى ذلك دينية أو مذهبية أو سياسية أو أيديولوجية …إلخ فلا بد من احترام المخالف ولا بد من إبراز حججه بتجرد كامل ومناقشتها مناقشة علمية إذا تطلب الأمر ومقارعة الحجة بالحجة.
وأما الأمانة فتتمثل في نقل آراء الآخرين كما هي دون تشويه أو اختصار يخل بالمعنى أو يضعف الاستدلال حتى لو لم تعجب الباحث. ولنا في أسلوب الحجاج في القرآن الكريم خير دليل على ذلك. وتقتضي الأمانة كذلك عدم سرقة آراء الآخرين أو ادعائها بعد تحريفها قليلا.
وأما النزاهة فتتطلب أن يحصل للباحث التجرد من المنافع المادية وعدم جعل العلم وسيلة من الوسائل التي يُتوصل بها إلى غاية أخرى غير العلم فالعلم غاية وليس وسيلة يقصد منها النفع والشهرة ، فمتى تحول العلم إلى وسيلة للارتزاق والنفع لم يعد علما بل مهنة تدر أرباحا وتكون أولى ضحاياه الحقيقة ذاتها.
وأما الموضوعية وهي أشهر خصال الباحث العلمي وأهمها فهي وكما هو واضح من التسمية إعطاء الفرصة للموضوع ليتحدث عن نفسه من خلال التحليل العلمي المنطقي بعيدا عن إسقاط أحكام الذات العارفة عليه وطبعه بطابعها . فالعلم يقتضي إنكار الذات والتعصب والهوى وهذا يعنى التواضع وعدم الجزم بأن ما توصل إليه الباحث هو الحقيقة الوحيدة ويقتضي أيضا الابتعاد قدر الإمكان عن استخدام عبارات من قبيل “مما لاشك فيه” و “نؤكد” و”نجزم” و”نقطع” و”لا مراء في ذلك”…إلخ واستخدام الصياغة الاحتمالية عوضا عن ذلك. ومن نتائج التحلي بالموضوعية في البحث العلمي أن تكون الحقيقة التي نتوصل إليها كلية تقبل بها العقول جميعا ويستطيع أن يتوصل إليها من يتبع المنهج الصحيح . فالباحث الجاد هو ذلك الذي يمتلك عقلا لا يخضع للآراء دون اختبارها ولا يضيق بآراء الآخرين أو يخفيها أو يشوهها لأنها تخالف آراءه وميوله الشخصية.
وأما القدرة التنظيمية فإنها تساعد الباحث على إعطاء هيكل تنظيمي لبحثه من خلال تخطيط واضح يكون جامعا لكل العناصر الضرورية مانعا لتسرب العناصر الغريبة أو الطفيلية إلى البحث كل ذلك بنوع من التناغم الذي يشهد على حضور ذات عارفة واعية بحدود ممارستها.
وأما الجرأة فلا تعني التهور بأي حال من الأحوال ولا تتناقض مع قيم التواضع لكنها القدرة على القول بأن الحق حق إذا ثبت بالدليل أنه كذلك وأن الباطل باطل إذا ثبت أنه كذلك . فلا تملق ولا خوف ولا حياء في العلم. فلا بد أن يكون للباحث عدل القاضي وجرأته وحياده وإلا تحول البحث إلى مهرجان للمدح والهجاء والمصانعة والمداهنة وهي كلها بعيدة عن خصال الباحث الجاد.
- المنطقية :
والمنطقية هي أن يكون السير في البحث وفقا لخطوات مرتبة يقبلها العقل السليم وأن تكون أفكار الباحث مناسبة وكافية لإثبات مسائل البحث وقضاياه . ولهذا فإن هذه الميزة ضرورية في عملية الاستدلال وفي تقسيم البحث وضمان خلوه من الحشو والاستطراد الزائد وشرود الذهن.
II– اختيار موضوع البحث :
يعتبر اختيار موضوع البحث أهم مشكلة تواجه طالب الدراسات العليا بعد تجاوزه مرحلة الدراسات التحضيرية. فهو لا يعرف كيف يختار بحثه ولا البحوث التي عولجت من قبل ولا المواضيع التي لا تزال قابلة للطرق.
ولعل هذه المشكلة تنبع من غياب فهارس متخصصة في بعض الدول توضح تسلسل الموضوعات التي تم تناولها وتواريخها وأسماء الجامعات والمؤسسات التي تم تناولها فيها والغرض منها هو منع التكرار وتضييع الجهد . وفي هذه الحالة لا بد للطالب من الاتصال المباشر بالجامعات الوطنية ومؤسسات التعليم العالي للتأكد من خلو الموضوع من المعالجات السابقة ، يلي ذلك الدخول على مواقع الجامعات الأجنبية ودليل الفهارس بها أو الاستفسار منها بشكل مباشر للتأكد من عدم تناول الموضوع فيها سابقا.
ولكن ومهما يكن من أمر فإن الطالب لا ينبغي أن يعود إلى أستاذه ليدله على موضوع البحث لأن هذا الأمر يتعارض مع أولى خصال الباحث الجاد وهي الميل والاستعداد الشخصي.
والحال أن الطالب غالبا ما يفكر في موضوع البحث للاعتبارات التالية:
1- لشيوعه
2- أو لأن فكرته حضرت في ذهنه منذ وقت قريب بفضل الدروس التي تلقاها
3- أو لأنه على صلة وثيقة بالموضوع بحكم نشاطه الوظيفي وبالتالي يبدو له مطمئنا ومحققا لغايات مهنية لا غبار عليها.
إلا أن هذه الاعتبارات كلها لا ينبغي أن تكون منطلقا لاختيار موضوع البحث. ففي الحالة الأولى هناك خطر بأن يقع الطالب في التكرار الممل وأن يكون بحثه صورة مستنسخة لبحوث أجريت من قبل . فلا يمكن للموضوع الشائع أن يكون منطلقا لاختيار موضوع البحث إلا بتوفر شرط أساسي هو أن ندير ظهرنا للوهج الإعلامي وأن لا نجعل أنفسنا جزءا من الجوقة التي لا نعرف لماذا انطلقت وإلى أين تتجه ولماذا في هذا الوقت بالذات فهذه الأمور كلها تخرج عن نطاق الرهانات العلمية الصرفة التي يجب أن توجه البحث العلمي.
أما في الحالة الثانية فنجد أن الطالب لا يكاد يعرف شيئا عن الموضوع الذي يبحث فيه وهو ما يعني ضرورة اطلاعه على الأبحاث السابقة في الميدان لكي يتفادى إسقاط الأفكار الغريبة والمجردة على الموضوع.
أما في الحالة الثالثة فإن الطالب يصل مسلحا وهو الأمر الذي لا يشكل دائما ورقة رابحة فلديه بعض الخبرات العلمية الشخصية حول الموضوع إلا أنها قد تصبح ستارا وحاجزا يحول بينه وبين خبرات أخرى تثري العمل وتمنحه طابع الجدة والأصالة.
وعلى الرغم من هذه الصعوبات إلا أن القاعدة الذهبية في هذا المجال هي قابلية الموضوع للطرق وهي القاعدة التي تتقدم على سائر القواعد الأخرى.
والحقيقة أن الطالب هو المسؤول الأول عن اختيار موضوع بحثه و يمكنه أن يستعين في ذلك بالأمور التالية:
1- المطالعات الشخصية والخبرات العملية المكتسبة في موضوع معين لم ينل حظه من الدراسة.
2- قضايا مستجدة تستحق تعميق المعارف المتعلقة بها وتأصيلها
3- تصويب بعض الأطروحات الخاطئة بناء على اكتشاف مناهج جديدة لدراسة الموضوع. ولكن في كل الأحوال لا بد من التقيد بمعايير محددة للبحث المبتكر وأن تكون الجدة والابتكار هما المعياران الأساسيان لاختيار الموضوعات.
III– معايير اختيار البحث :
1– الرغبة : لا بد من الرغبة في البحث وأن يكون البحث جزءا من الباحث يجد نفسه فيه ويوفر له نوعا من الطمأنينة والأمان.
2– الجدة : لا بد أن يكون البحث مبتكرا وإلا فلا فائدة فيه أي أن يكون مجاله جديدا غير مطروق من قبل وينصح في هذا المجال بالابتعاد عن الموضوعات التي قتلت بحثا كما لا يجوز تناول الموضوعات التقليدية أو التي تم تناولها من قبل إلا إذا رأى الباحث والهيئة المشرفة أنه يستطيع الإتيان فيه بأمور جديدة باستعمال مناهج جديدة لم تستعملها الدراسات السابقة أو ظهور اكتشافات جديدة في الموضوع تتطلب إعادة النظر فيه.
3– أهمية الموضوع : ليس كل موضوع جديرا بالدراسة. لذا يجب على الطالب أن يتساءل أمام الموضوع الذي يختاره هل يستحق الدراسة أم لا ؟ ولماذا ؟ هل فيه فائدة (نظرية أو عملية) له وللمجتمع وللبشرية بصفة عامة ؟ هنا ينصح بالموضوعات المهمة التي لا تختفي في رفوف المكتبات الشخصية لأصحابها بعد إنجازها بل التي تنشر فتساهم في تطوير البحث العلمي وفي تنمية المجتمع والدولة.
4– حصر مجال الدراسة : لا بد من تحديد ميدان الدراسة وحصره لكي تكون السيطرة عليه ممكنة ذلك أن الإحاطة بالموضوعات الشائعة عملية صعبة قد تضطر الباحث إلى معالجتها معالجة سطحية . فكثيرا ما وجد الباحث راحته في موضوعات عامة غير محددة بشكل دقيق أثناء البحث لكنه من المستحيل عليه أولا السيطرة عليها والتعمق فيها والتحكم في امتداداتها ثم الدفاع عنها عند التقييم وأمام لجنة المناقشة وهنا يكون الحرج شديدا خصوصا وأنه كان في الإمكان تفاديه.
5– توفر المادة العلمية : لا بد مكن توفر المادة العلمية بحيث تكون لدى الطالب إمكانية الوصول إلى أكبر قدر ممكن من مصادر البحث ومراجعه . فلا تجوز المجازفة باختيار موضوع نعلم مسبقا بصعوبة الوصول إلى مصادره ومراجعه لاعتبارات لغوية أو مادية أو غيرها.
6-القدرة على المعالجة : وتشمل القدرة المعرفية والوسائل المادية الضرورية لإنجاز العمل. وهنا تكون معرفة اللغات الأجنبية بالغة الأهمية في الكثير من الموضوعات وربما شكلت عائقا يقلل من أهمية بعضها الآخر. أما الوسائل المادية فهي ضرورية في كل الأحوال ومنها توفر الإمكانيات المادية للسفر إلى بلد أجنبي وشراء المراجع الضرورية للبحث والقدرة على الوصول إلى الوثائق المهمة له والتحكم في المعلوماتية وتوفر خط سريع للأنترنت …إلخ.
7-التحكم في الزمن : لا بد من النظر إلى الوعاء الزمني اللازم لإنجاز البحث والتكيف معه واستغلال الوقت استغلالا جيدا . فهناك بعض الموضوعات التي لا يمكن القيام بها في وقت وجيز وتقدير ذلك يتوقف على الطالب والهيئة المشرفة والإدارة.
IV– الإجراءات البحثية وأخطاء التفكير :
البحث ليس مجرد عملية قص ولصق أو تأليف بين عدد من العناصر والأفكار ونسبتها إلى أصحابها بل هو ممارسة لعملية التفكير الذاتي ومحاولة لتكوين شخصية علمية مستقلة لها القدرة على التحليل والنقد والمقارنة (عمليات العقل الثلاث). لهذا السبب يجب على الباحث التقيد بالإجراءات الصحيحة للبحث العلمي وأن يحترس من الوقوع في أخطاء التفكير.
- الإجراءات البحثية :
من أهم الإجراءات التي يتعين على الباحث التقيد بها :
1.1- الاستنتاج : وهو ما يستنبطه العقل من نتائج في عملية البحث انطلاقا من مقدمات مسلم بصحتها. ويعرفه المناطقة بأنه : استنتاج نتائج مجهولة من مقدمات معلومة تنتج عنها بالضرورة. ويدخل في هذا الباب ما يلاحظه الباحث من أفكار يمكنه البرهنة عليها وتفيده في تأسيس أحكامه على قاعدة يقينية راسخة ، وتفنيد الأطروحات الخاطئة بالاعتماد على أدلة واضحة.
2.1- البرهنة : وهي مجموع الأدلة والبراهين التي يدافع بها الباحث عن وجهة نظره ويرد بها على وجهات النظر المعارضة لها.
3.1- الشرح : وهو اعتماد أسلوب التحليل والتفكيك لتوضيح المعنى أو المحتوى لمفهوم معين أو قضية أو عبارة أو نص أو وثيقة فمن مهام الباحث تيسير فهم ما يكتبه والابتعاد عن التكلف والتعبيرات الغريبة أو المجازية أو ملتبسة المعنى.
4.1- المقارنة والترجيح : تساعد المقارنة في فهم القضايا وإدراك أبعادها المختلفة ولذلك فهي عملية منهجية حاسمة وإن تضمنت بعض المزالق قد تجعلها خطأ من أخطاء التفكير . وكلما كانت المقارنة سليمة ومتوازنة بحيث تظهر فيها حجج الطرفين دون إجحاف أو محاباة كان الترجيح مقنعا وقائما على أسس سليمة . ولا يجوز الترجيح في ظل مقارنة لم تستوف شروطها.
5.1- الاقتباس : عملية ضرورية لإثراء العمل علاوة على أنه جزء من نظام الحجج . وهو عبارة عن عملية فنية دقيقة يتم فيها اختيار مقطع قصير من نص لا يتجاوز 6 أسطر لاعتبارات عديدة تتعلق بالشكل والمضمون.
ويخضع الاقتباس لقواعد كثيرة من أهمها :
* كثافة النص وعمقه وثرائه بالأفكار وقدرته الكشفية
* قدرته على المساهمة في حل مشكلة معينة
* سلامته من الناحية اللغوية والتركيبية ووضوح أسلوبه.
ومن أهم الشروط التي يجب على الباحث التقيد بها في اختيار الاقتباس ما يلي :
* عدم استعمال نص للاقتباس إلا بعد فهمه وتقليبه على وجوهه المختلفة والتأكد من ملاءمته شكلا ومضمونا للمحل الوارد فيه.
* توظيفه في سياقه المنطقي المناسب بحيث لا يحدث انقطاعا أو تذبذبا في عملية الاستدلال وفي البناء اللغوي للنص وبنيته الإعرابية . وهذا يعني أن يجيء الاقتباس منسجما مع ما قبله ممهدا بشكل من التدرج المنطقي لما بعده وبذلك يصبح التحليل منسجما ومتناسقا على وتيرة واحدة يطبعها الاتصال والسير المنظم.
* ضرورة إخضاعه للتفسير والتحليل ، للنقد والتمحيص والتعليل والتبرير وهو ما يضمن للعمل وحدته وللباحث أصالته وشخصيته العلمية.
وهنا يكون الباحث أمام خيارين : فإما أن يكون النص في خدمته وذلك بتوظيفه توظيفا جيدا في المكان المناسب وجعله جزءا من النسيج العام للمتن وإما أن يكون هو وما يكتب في خدمة النص المقتبس فيتوارى عن الأنظار عندها يمكن لصاحب النص أن يأخذه إلى حيث شاء فتغيب الشخصية العلمية وروح الإبداع ويفقد البحث طابع الأصالة والتجديد.
ولا بد من الإشارة إلى الاقتباس في الهامش وتوثيق ذلك بشكل دقيق وفقا للطريقة التالية :
في الحالة الأولى التي يتم فيها الإشارة مؤلف معين مصدرا كان أو مرجعا تكون الطريقة كالآتي :
اسم المؤلف ، عنوان الكتاب ،(اسم المترجم أو المحقق إذا كان الكتاب ترجمة أو تحقيقا) دار النشر ، مكانها ، الطبعة ، تاريخها، المجلد ، الصفحة.
أما في الحالات التي يتم فيها الإشارة مرة أخرى إلى المرجع أو المصدر فيتعين الاكتفاء بالعبارات التالية :
* المصدر/ المرجع نفسه (في حالة التسلسل)
* اسم المؤلف ، عبارة مصدر/ مرجع سبق ذكره (في حالة الانقطاع).
6.1- الترتيب أو التدرج في بناء الحجج : للترتيب أهمية خاصة في إجراءات البحث حيث يقدم الباحث ما يستحق التقديم ويؤخر ما يستحق التأخير في الفقرة الواحدة وفي العنصر الرئيسي والجزئي وفي الفصول والأجزاء والأبواب لأن الخلل في الترتيب يقطع تسلسل الأفكار ويؤثر على منطقية الاستدلال وتسلسل الأفكار ويقلل من رصانة التحليل وتماسك العرض وتكامل الشكل والمضمون ويشوش فكر القارئ ويثير الشكوك حول مقدرة الباحث على التحكم في موضوعه.
7.1- التصحيح : رأينا سابقا أن تصويب الأخطاء قد يكون سببا من أسباب اختيار البحث وغاية يسعى الباحث إليها ويقصد بالتصحيح مراجعة بعض الأفكار السابقة وتصويبها دون تجريح أو مبالغة أو إهانة أو تنكر لفضل السابق في التنويه بها وحتى وإن لم يوفق في معالجتها.
8.1- التعليل: وهو ذكر السبب الكافي للقول بفكرة معينة ومسوغاتها وهو عملية بحثية مهمة من أكثر إجراءات البحث تداولا لأن مشروعية أي فكرة تتأتى من الإجابة على هذا السؤال : لماذا هذه الفكرة بالذات ؟ ولماذا لم تكن ؟ فإن عجز الباحث عن الإجابة على هذا السؤال فمعنى ذلك أن ثمة نقصا في الإجراءات المنهجية وعيبا في طريقة العرض وغيابا للوضوح والإقناع. ويعني ذلك أن الفكرة أو التحليل يبقى دائما محل شك ما لم يقم الباحث بتعليله وتبريره.
2- أخطاء التفكير :
الباحث العلمي معرض للوقوع في الكثير من الأخطاء وفي مقدمتها أخطاء التفكير وأهم هذه الأخطاء:
1.2- التعميم : ويعود هذا الخطأ إلى التسرع في الأحكام وتعميمها انطلاقا من حالات جزئية . فالقول بأن الناس جميعا أنانيون هو نوع من التخمين الذي لا يستند إلى اختبار جميع الحالات الجزئية. ومع ذلك قد تكون هناك أحكاما عاما صحيحة ولكن لا مجال إلى إثباتها عن طريق التجربة.
وهناك بعض الألفاظ التي يجب على الباحث التعامل معها بحذر شديد مثل : “جميع” “عامة” “كافة” “كل” “مطلقا” “دائما” “عامة”… لأنها تعطي تأكيدات شمولية قد لا يصدقها الواقع والتجربة.
2.2- التهوين : يقابل هذا الخطأ المبالغة والغلو. فكما تقتضي المبالغة تضخيم الأشياء ومجانبة الصواب يقتضي التهوين التقليل من شأنها أو الإفراط في إظهار يسرها وسهولتها. والتهوين هو نوع من التعامل السطحي مع المشاكل التي تحتاج إلى الإمعان والتدقيق والتعميق مثل القول بأنه يكفي لحل مشكلة انخفاض مستويات التعليم في موريتانيا أن نزيد في علاوة التدريس لأن هذه المسألة تمثل بعدا واحدا من أبعاد تلك المشكلة المعقدة.
3.2- موافقة الهوى : ويقود هذا العيب إلى التعصب والانحياز إلى رأي معين دون النظر في بنائه المنطقي والميل إلى تحقيق فروض يتمنى الباحث لو توصل إليها من خلال بحثه، وقد يعمد في سبيل ذلك إلى الاكتفاء بالأدلة الضعيفة والقاصرة وتجاهل الأدلة القوية المقنعة.
4.2- المقارنة الخاطئة : هناك شرط لا بد من توفره في المقارنة أشرنا إليه سابقا وهو توازن الحجج ويعني عدم جعل شيء في الكفة اليمنى ما لم يقابله شيء آخر في الكفة اليسرى . ومن الخطإ المقارنة بين شيئين مختلفين في الصفات والظروف لمجرد وجود علاقات وهمية لا تستند إلى أي وجه من الشبه. وفي المقابل كثيرا ما يغفل الباحث فروقا جوهرية في موضوع البحث ويركز على عناصر شبه ثانوية أو عرضية.
5.2- سوء البرهنة : يدخل في هذا العيب الكثير من أخطاء التفكير وأقربها إليه هو انقطاع الصلة بين الدليل والموضوع وإيراد الأسباب الخاطئة والبراهين الضعيفة أو غير المقنعة أو الخارجة عن الموضوع . فالبرهان عمل عقلي يتدرج فيه العقل من شيء معلوم مسلم بصحته إلى شيء مجهول مترتب عليه ويؤدي أي خلل في المقدمات إلى حصوله في النتائج ولا بد أن تحتوي كل قضية على قوتها البرهانية الذاتية أولا ولا بأس بتعزيزها بأدلة وشواهد عقلية ونقلية.
6.2- الخضوع للآراء الشائعة : قلنا إن كل حجة أو فكرة لا بد أن تتمتع بقوتها البرهانية الذاتية المستمدة من انبنائها الداخلي لا من نسبتها إلى هذا المؤلف أو ذاك وهذا هو ما يسمى بسلطة السلف.
7.2- المهاجمة الشخصية : قد يجنح النقد إلى التعريض بأشخاص الآخرين وهذا يخرج عن أخلاق البحث العلمي وآداب المناظرة فضلا عن كونه خطأ جسيما من أخطاء التفكير. وكثيرا ما نشاهد خصومات فكرية كبرى مثل خصومة الغزالي مع الفلاسفة وخصومة سقراط مع السوفسطائيين ولكن مع ذلك لا يخرج أصحابها عن حدود اللياقة واحترام الرأي الآخر مهما كان النقد شرسا.
8.2- الثالث المرفوع : هو ثالث قوانين الفكر وصيغته أن الشيء لا بد أن يكون هو أو غيره من الأشياء فإن لم يكن هو ولا غيره من الأشياء فمعنى ذلك أنه عدم لأنه لا وجود لاحتمال ثالث.
9.2- الاحتجاج بغير الحجة : لا بد في بناء الحجة من الاعتماد على الفلاسفة أو المؤلفين الكبار الذين لهم قدم راسخة في المجال الذي نبحث فيه ولا يجوز البرهنة والاستشهاد بالمراجع الثانوية أو العامة في حال وجود المصادر.
10.2- الاحتجاج بعمل الأكثرية : إجماع الناس على مسألة معينة لا يعتبر حجة علمية. فكثير من المعتقدات والتقاليد الشعبية يتبين خطؤه عند القيام بالتجربة فلا يجوز للباحث الاحتجاج بالقول “كل الناس يفعل هذا” ما لم يثبت له صحة ذلك الزعم بالدليل والحجة القاطعة التي يدعمها العقل أو التجربة. فكثيرا ما كانت الأغلبية على خطأ والشواهد التاريخية عديدة ولنا في محنة الكثير من الأنبياء والفلاسفة والعلماء خير دليل على ذلك.
ثانيا- فن القراءة :
القراءة هي تفكير وممارسة في آن واحد. فإلى جانب القراءة لأجل التسلية أو القراءة لأجل التثقيف الهادفتين إلى تنمية الرصيد الثقافي والمعرفي يوجد بالفعل صنف آخر من القراءة هو القراءة لأجل التمرن الفكري والعقلي وهي نوع خاص جدا يمكّن الباحث من إعداد نفسه للقيام بالبحث على أكمل وجه . وهذه القراءة هي قراءة ديناميكية وليست سلبية يبذل فيها الباحث ما في وسعه للسير قدما إلى الأمام بشكل سريع والقبض على الأفكار المحورية في النص ومحاولة التفكير معه وليست فقط محاولة التفكير فيه وهي لذلك لا تنفصل عن الكتابة وبالفعل يجب على الباحث أن يقرأ والقلم في يده مع الانتباه والتركيز القوي المتواصل على النص الذي بين يديه وعلى الموضوع الفكري المتعلق به . وتقتضي القراءة لأجل التمرن الاقتضاب والانتقائية.
- أخذ الملاحظات وإعداد القصاصات :
أخذ الملاحظات وإعداد القصاصات عملية أساسية في فن القراءة. فقراءة كتاب “الأخلاق” لاسبينوزا على سبيل المثال دون أخد أي ملاحظات معناه ترك الجهد المتعلق بالفهم جانبا . ولا ينبغي الخلط بين أخذ الملاحظات ومجرد السحب الميكانيكي أو إعادة الإنتاج . فلكي يكون أخذ الملاحظات أصيلا ومثمرا فإنه يتطلب القيام بالخطوات التالية :
* أن يعبر الباحث عن المفاهيم والمقاطع المهمة بلغته الخاصة بشكل يجنبه الاستنساخ الآلي وتعد هذه العملية مهمة في تكوين الشخصية العلمية المستقلة.
* إعداد ملخص وتصور واضح للاتجاه الفكري للمؤلف.
* تحرير القصاصات وهي عملية لا تنفصل عن فن القراءة الجيدة . ولا بد أن يخضع إعداد القصاصات لنظام معين بحسب المواضيع أو المفاهيم أو الكتب أو المؤلفين مع ضرورة الإشارة إلى الإحالات المرجعية لها وإلى مصادرها بشكل دقيق ووضع عناوين لها تسهل العودة إليها عند الحاجة وتصنيفها ضمن عناصر الخطة المؤقتة التي يتبعها الباحث.
ويتعين على الباحث عند الانتهاء من إعداد القصاصات الاعتناء بمصادر كل ما يهمه منها بشكل دقيق وتصنيفها من حيث الموضوعات التي تتناولها في ملفات منفصلة. وتساعد تلك العملية عند القيام بها على أحسن وجه الباحث في تصور مكونات الخطة الأولية للبحث.
قصاصة قراءة خاصة بالمراجع :
خصائص الكتاب :
العنوان : الجنون
المؤلف : جاكار رولاند
الناشر : المطبعة الجامعية الفرنسية (PUF) سلسلة “ماذا أعرف ؟”
بيانات أخرى : تاريخ النشر ، الطبعة ، الترجمة إلخ..
تحليل إجمالي :
النوع : بحث
الموضوع الأساسي : الجنون
الأفكار المحورية :
– الطابع متعدد الأبعاد لتجربة الجنون
– أعراض الجنون غنية بالدلالات
– إلخ
فهم الكتاب :
– مقصد المؤلف أو ما يريد إثباته : أن كل مجتمع بشري يحتاج إلى مجانين لكي يحملهم سلبياته.
إلا أن مجمل تلك العمليات التي يقوم بها الباحث تحتاج إلى الاقتضاب والانتقائية.
- القراءة المقتضبة و الانتقائية :
الانتقاء أو الاقتضاب هو طريقة منهجية نسعى من خلالها إلى استخراج مضمون مؤلف معين دون أن نقرأه بكامله وأن ننصرف على الفور إلى ما هو جوهري فيه . والواقع أن هناك عددا كبيرا من الكتب لا يتطلب الأمر قراءته كله.
والقراءة الانتقائية هي طريقة أو أداة منهجية يجب على الباحث أن يستخدمها و أن يطبقها بشكل دائم . والقراءة الانتقائية هي القراءة السريعة والإحاطة بالعناصر والأفكار المهمة الموجهة والإمساك بها أما إذا استغرق الباحث في قراءات متشعبة دون فرز وانتقاء لها فستغرقه عندئذ كثرة الوثائق والقصاصات وسيكون مضطرا إلى الإحاطة بمجامع المعرفة وهذا مستحيل.
يجب على الباحث التحكم في المعرفة وأن يفرزها ويتخير منها فلا ينبغي له أن يسمح لتشعب المعارف وتعدد حقول المعرفة بتشتيت انتباهه وتركيزه على الموضوع . ذلك أن الفهم الصحيح للمنهج في هذا المجال يقتضي منا أن نستبعد بسرعة وألا نستوعب أو نهضم سوى ما هو مهم وحاسم لنا في المجال الذي نبحث فيه ولذلك فإن القراءة الانتقائية تعصمنا من الضياع في الأمور الثانوية وتوجهنا فورا إلى الموضوعات المحورية والأساسية بالنسبة للبحث.
- الطريقة المثلى للانتقاء :
تتطلب القراءة الانتقائية القيام بالإجراءات التالية :
* قراءة تصدير الكتاب أو مقدمته فغالبا ما يعبر فيها المؤلف عن أفكاره الرئيسية بشكل مكثف وعن خطته في تناول الموضوعات. وعلى الباحث أن يفهم التسلسل المنطقي للموضوعات داخل الكتاب وهو ما يساعده على انتقاء ما يهمه والتركيز عليه.
* جرد قائمة الموضوعات للمساعدة في الانتقاء وتساعد تلك العملية في فهم مضمون المؤلَّف وأسلوبه في تناول الموضوعات وجعل الباحث في وضع يمكنه من الوصول إلى الأجزاء والفصول أو العناصر الفرعية التي يبدو أنها تقدم مفاتيح الكتاب .
* يجب على الباحث ألا يهمل قراءة فهرس المفاهيم والمصطلحات الأساسية التي يتضمنها المؤلَّف فقد تلعب تلك المفاهيم والمصطلحات الأساسية دورا حاسما في فهمه وتوجيهه نحو هدفه.
* يجب أن ينصرف الباحث بوسائل القراءة الديناميكية هذه التي تمثلها المقدمة وقائمة الموضوعات وفهرس المصطلحات مباشرة إلى الفصول والأجزاء والفقرات التي تهمه وأن يكون على درجة كبيرة من التركيز فإن وجد في هذا الفصل أو ذاك ضالته فعليه أن يأخذ منه ملاحظات محددة وموثقة بشكل دقيق . وقد يحتاج إلى تصوير بعض الصفحات وعليه في هذه الحالة أن يقوم بالتعليق بقلم الرصاص على العناصر الرئيسة فإن حاز الكتاب على رضاه أصبح منذ ذلك الحين من قائمة المراجع المهمة التي قد يعود إليها في أي لحظة وستساعده تلك الملاحظات التي دونها على استعادة أفكاره وتعميقها.
4- التمرن على التلخيص :
تلخيص النصوص وسيلة منهجية حاسمة لذلك تعتمده المدارس الكبرى مقررا من مقرراتها. ويساعد التلخيص الباحث في تعميق ملكاته الفكرية وتطويرها وهو يشحذ الذهن ويقوى القدرة على الاستنباط والفهم . لذلك يجب على الباحث أن يقوم بتلخيص المقاطع التي يرى أنها مفيدة تلخيصا أدق في المعنى والدلالة وأقصر في الشكل والمادة من العمل الأصلي ويتعين عليه في ذلك الإشارة إلى فكرته المحورية ومجمل الإحالات والأبعاد الفكرية التي يشير إليها. وهذا العمل مفيد للباحث في جوانب ثلاثة :
– فهو يعمل أولا وقبل كل شيء على تكوين ملكاته الفكرية وتطويرها
– ويمكنه أيضا من إعداد قصاصة تتضمن عناصر توثيقية مهمة مفيدة لإعداد الخطة المؤقتة
– وتساعد تلك الخطوة أيضا في التمهيد للتحرير والكتابة.
5- خلاصة حول فن القراءة :
يمكن اختصار فن القراءة في الخطوات التالية :
* ممارسة القراءة السريعة عندما يكون الباحث في مكتبة أو في معرض للكتب مع تفحص المقدمة وفهرس الموضوعات والملاحق والعناوين
* القيام بالقراءة الانتقائية بشكل دائم للانصراف إلى ما هو جوهري
* عدم الضياع بسبب كثرة المصادر والمراجع وتعدد الرؤى والتأويلات
* المعرفة الجيدة لكيفية أخذ الملاحظات مع إعادة صياغة المشكلات باللغة الخاصة والأسلوب الشخصي وإخضاع المفاهيم التي يستخدمها المؤلف للتحليل الذاتي.
* إعداد قصاصات لكل مؤلَّف على حدة وكذلك لكل موضوع أو مؤلف مع الإشارة إلى مصادرها بشكل دقيق.
* التعمق مع التركيز الكامل
* الوعي بأن القراءة المقتضبة والتعمق هما وجهان لعملة واحدة هو فن القراءة الجيد
* مساءلة الكتاب أو النص وعدم الاقتصار على مقاربة سلبية انفعالية .
ثالثا- إعداد خطة البحث:
الخطة هي الهيكل الجامع لعناصر البحث المختلفة . ومن شروط الخطة :
* أن تكون جامعة مانعة : جامعة لكل العناصر الضرورية للبحث الذي لا تتصور اكتماله بدونها مانعة من تسلل العناصر الطفيلية والغريبة على الموضوع ولذلك يمكن القول بصفة عامة إن الخطة هي من حيث الشكل مراعاة التناسب في العلاقة بين الكل أو الموضوع وبين عناصره المكونة له (وهي الأجزاء أو الأبواب والفصول والمباحث الرئيسة والمباحث الفرعية وفرعية الفرعية)، ومن حيث المضمون بلوغ حد الكفاية في معالجة الموضوعات معالجة علمية شاملة ،عميقة وموضوعية من حيث التحليل والنقد والمقارنة.
* ومن شروط الخطة أيضا : الخضوع لقاعدة النظام وخاصة مبدأ التدرج في الفكر والتسلسل المنطقي للموضوعات بحيث يمهد فيها السابق لللاحق وتترابط فيها الأجزاء والعناصر ضمن علاقة تكاملية تدل على حضور الباحث وشخصيته وقدرته على التحكم في مختلف مسارات البحث ومنعرجاته.
* الإبداعية : ويقصد بها القدرة الكشفية التي تتمتع بها عناصر الخطة وإحالتها إلى موضوعات مبتكرة ذات أهمية نظرية وعملية كبيرة . ويمكن القول من هذا الجانب بأن تصميم الخطة هو فن قبل كل شيء لأنه يعبر عن إبداع شخصي يظهر الفروق بين الأشخاص والتفاوت بينهم في القدرة التنظيمية، والنظام في الواقع هو من عمل العقل .
* الطابع الديناميكي : وهي خضوع الخطة لقانون التطور والبناء المتدرج . ويجب أن تكون الخطة ديناميكية قابلة لاستيعاب ما يستجد من أمور : كالحصول على مصادر ومراجع جديدة وظهور اكتشافات جديدة متعلقة بالموضوع وظهور مناهج وأدوات جديدة للعمل … وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تغيير القناعات والتصورات لدى الباحث بشكل دائم تغيير ينعكس في التحسينات المستمرة للموضوع من حيث التصميم والشكل وطريقة تنفيذ الخطة.
وإعداد خطة البحث هو عبارة عن عملية تفاعلية لا تتم دفعة واحدة . ويقول الخبراء في هذا المجال إن الخطة هي دائما مؤقتة بالنظر إلى حاجتها المستمرة إلى المراجعة لغرض التصحيح والتطوير: من الخطة المؤقتة أو الأولية للبحث إلى الخطة المتكاملة إلى المقال أو الكتاب إلى تطوير الكتاب والمقال ومراجعتهما عبر الطبعات المتتالية إلى مراجعة أفكار المؤلف نفسه وتطويرها بعد وفاته.
وبصفة عامة تنقسم الخطة إلى نوعين: الخطة المؤقتة الأولية والخطة المتكاملة.
1- الخطة المؤقتة : وهي الخطة العامة الأولية غير النهائية وغير الملزمة التي يقترحها الباحث في بداية العمل . وتنطوي على الخطوط العامة العريضة للبحث. ويأتي اقتراح الخطة المؤقتة بعد عملية اختيار البحث وجمع المادة العلمية والقراءة السريعة لمصادر الدراسة ومراجعها .
وتتضمن الخطة المؤقتة تصورا لتقسيم موضوع البحث ومادته إلى أجزاء أو أبواب وفصول وعناصر فرعية مع التأكد من وجود علاقة بين ما يقترحه الباحث من عناصر وبين الموضوع أو الكل الذي يجمعها. والميزة الأساسية لهذه الخطة المؤقتة هي الاختصار والتأكد من وجود الصلة بينها وبين الموضوع. ويتعين على الباحث أن يستعين في ذلك بما انتهى إليه في عملية إعداد القصاصات وتصنيفها إلى موضوعات.
ومن غير المقبول أن يعمد الباحث إلى نقل عناصر الخطة من كتاب مشابه أو من دراسات سابقة تتقاسم معه الموضوع ذاته فهذا الأمر علاوة على أنه خيانة علمية لا يستجيب لشرط الأصالة والجدة الضروري في كل بحث علمي جاد . فلكل عمل علمي خصوصيته من حيث الموضوع والمنهج والزمان والمكان.
- الخطة المتكاملة :
وهي الشكل “النهائي” الذي استقر عليه تخطيط البحث بعد اكتمال قراءة المصادر والمراجع قراءة متأنية فاحصة وبعد جمع الملاحظات والمعلومات التي تتضمنها قصاصات القراءة وتحليلها وتركيبها وتصنيفها والميزة الأساسية للخطة النهائية هي الشمولية : من الناحية الشكلية تكون أكثر تفصيلا من الخطة المؤقتة ومن الناحية المضمونية أكثر عمقا. ولذلك فإن الباحث مطالب في هذه المرحلة بعرض التفاصيل الدقيقة للموضوع عرضا شاملا وهو ما يعني بالضرورة تغيير الكثير من القناعات التي تكونت لديه في المراحل الأولى من البحث وستلازمه تلك الصفة إلى حين اكتمال البحث إلا إذا لم تكن الأمور تسير على نحو سليم.
من الناحية التنظيمية يجب أن يخضع تخطيط البحث لنظام ثابت في جميع الأجزاء أو الأبواب من بدايته إلى نهايته مع مراعاة التناسب في حجم الأجزاء والفصول والعناصر الرئيسة والفرعية بعيدا عن التكلف .
وتتسلسل عناصر البحث على النحو التالي :
الأجزاء أو الأبواب : الأول والثاني والثالث …إلخ
الفصول : الأول والثاني والثالث …إلخ
أولا- المباحث أو العناصر الرئيسة
ثانيا …إلخ
- العناصر الفرعية
- …إلخ
أ- العناصر فرعية الفرعية
ب- … إلخ
* الفقرات
* …إلخ
وبالإضافة إلى العناصر التي ذكرنا تتضمن خطة البحث مقدمة وخاتمة. والمقدمة والخاتمة هما آخر ما يكتب من عناصر البحث. وتتضمن المقدمة العناصر التالية :
– التمهيد
– أسباب اختيار الموضوع
– مشكلة البحث
-أهمية الموضوع
-العرض النقدي للدراسات السابقة
-المنهج المتبع
-الإعلان عن الخطة
-الصعوبات المنهجية
أما الخاتمة فهي عادة ما تخصص لعرض نتائج البحث ورسم خارطة الطريق للبحوث المقبلة في الموضوع ذاته بالإشارة إلى الجوانب التي لا تزال بحاجة إلى التعميق وقد تكون خاتمة نقدية .
تنظيم المصادر والمراجع يكون بحسب الترتيب الأبجدي بحسب الألقاب .
رابعا- تحقيق المخطوطات :
تكمن أهمية العمل بالمخطوطات في الوقت الحاضر في نفض الغبار عن ذخائر من التراث لم يكشف عنها من قبل ولم تنل حظها من الدراسة والاهتمام وفي الاستفادة مما تحويه من علوم ومعارف في مختلف الميادين . ويساعد الاهتمام بالمخطوطات في نشر التراث والتعريف بمختلف نواحي الثقافة في العصور الماضية.
والتحقيق عملية معقدة تتضمن العديد من الخطوات منها : تأكيد نسبة المخطوط إلى مؤلفه وجمع النسخ وتصحيحها والمقارنة بينها لبيان المتواتر منها والدخيل عليها والمزيد والناقص والساقط منها والتثبت من صحة عنوانها العام ومضامينها وتخريج اقتباساتها وضبط نصوصها. كما يتضمن كذلك وضع فهارس الأعلام والأماكن والكتب والمصطلحات والقوافي والهوامش وتخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومصادر الاقتباسات ومختلف التوضيحات التي يرى المحقق أنها تزيد في وضوح النص وكماله . كما يدخل في التحقيق أيضا وصف النسخ ونوع الورق وحجمه وحجم المخطوطة وبدايتها ونهايتها مع الحبر المستخدم فيها وتسليط الضوء حول الناسخ وعلاقته بالمؤلف وتاريخ النسخ ودقته.
وبناء على ذلك يمر النسخ بالمراحل التالية :
1- جمع النسخ :
– يشترط في تحقيق المخطوطة أن توجد لها أكثر من نسخة ولا تحقق في العادة المخطوطة إذا كانت من نسخة واحدة (المخطوطة اليتيمة) إلا في حالة الضرورة كشدة الحاجة إليها والتأكد من عدم وجود نسخ أخرى منها.
– كما يشترط كذلك عدم تحقيق المخطوطات التي تم تحقيقها من قبل إلا عند التيقن من وجود نقائص يتم تلافيها أو أخطاء يتم تصحيحها أو ظهور مناهج جديدة يراهن الباحث على قدرتها في تقديم إيضاحات جديدة للنص المراد تحقيقه.
وكلما جمع المحقق من النسخ من جميع أنحاء العالم وحرص على أهمها وأكثرها ضبطا وباعد بين أماكن جمعها كان عمله أقرب إلى الكمال لأن كثرة النسخ تظهر الفروق وتبين حجم التواتر الضروري في إثبات صحتها. وأما تعدد الأماكن فيساعد في تجاوز التشابه بين النسخ التي تصدر من بلد واحد لأنها قد تعود جميعها إلى أصل واحد ليس هو الأصل فتجمع بذلك أخطاء النسخ الأخرى وعيوبها إن وجدت مما قد يوحي للباحث أن الخطأ هو من المؤلف نفسه !
- تصنيف النسخ :
ترتب النسخ التي يحصل عليها المحقق بحسب أهميتها وصحتها وقربها من عصر المؤلف كل ذلك بهدف الوصول إلى المخطوطة الأم وهي الأقدم عادة والأقرب إلى المؤلف إما لأنها بخط يده ، أو لأنها حوت تصويبات بخط يده أو بإيعاز منه أو قرأت عليه أو كتبت في عصره ويجب اعتماد المخطوطة الأم في التحقيق . وفي حالة كثرة النسخ يتعين على المحقق أن يصنفها ويرمز لكل منها بحرف من حروف الهجاء.
- تحقيق العنوان ونسبته إلى مؤلفه :
من الأخطاء التي تحدث في بعض الأحيان نسبة كتاب خطأ إلى غير مؤلفه وأحيانا ينشر دون ذكر صاحبه وبالتالي لا يجوز للمحقق الاكتفاء بما هو مكتوب على ظهر المخطوطة وبالنسبة المثبتة عليها إن لم يجد ما يؤكد ذلك في المتن ويتم الاستدلال على ذلك بطرق متعددة . وغالبا ما كان العنوان دالا على مضمون الكتاب. كما يتم التأكد من صحة العنوان بالرجوع إلى فهارس المخطوطات وكتب التراجم ومنها على سبيل المثال لا الحصر : تاريخ الأدب العربي لبروكلمان ، وتاريخ التراث العربي لسوزكين ونوادر المخطوطات العربية في مكتبات تركيا لرمضان شلش إلخ…
- تحقيق النص :
يكمن عمل المحقق في إخراج النص في صورة أقرب ما تكون إلى الأصل الذي وضعه المؤلف ولا يتأتى ذلك إلا بمعرفة الأصل أولا لمعرفة مقدار التطابق بينه وبين التحقيق.
ويتضمن التحقيق القيام بالخطوات التالية :
* التحقق من صحة الكتاب وعنوانه ونسبته إلى مؤلفه
* التعرف على المخطوطة الأم
* مقابلة المخطوطة الأم بالنسخ الأخرى مع الإشارة في الهامش إلى الفروق بينها في كل لفظ.
* في حال وجود الزيادة في إحدى النسخ يجب إضافتها مع الإشارة إلى ذلك في الهامش ويجوز للمحقق إضافة كلمة سقطت سهوا من النص مع وضعها بين مجالين [ ].
* يجب على المحقق أن يبقي على تخطيط المؤلف والعناوين التي وضعها كما هي مع إبرازها وعلى ترتيب الفقرات ، ويجوز له تقسيم الكتاب إلى فصول وأبواب في حالة ما إذا لم يكن المؤلف قد قام بذلك على أن يضع كل الإضافات بين مجالين [ ] ، كما يجوز للمحقق استخدام علامات الوقف لأنها بمثابة الرئة التي يتنفس النص من خلالها ولأنها لم تكن معروفة لدى القدماء وهذا الأمر يتطلب فهم النص فهما جيدا ويجوز له تشكيل النص وخاصة الأبيات الشعرية والآيات القرآنية إذا اقتضت الضرورة ذلك.
5- الهوامش والحواشي:
تكمن أهمية الهوامش والحواشي في أنها وثائق الأصل وأدلة توضح الجهد المبذول في تحقيق النص، علاوة على ما تقدمه من توضيحات وتصحيحات مكملة للنص ولا بد من مراعاة الإيجاز فيها وإزالة الحشو.
ويجب على المحقق أن يوضح في الحواشي الأمور التالية : مصادر المؤلف ، أرقام الآيات القرآنية وسورها، وتخريج الأحاديث النبوية وإثبات مصادرها، والأشعار والكلام المأثور ، وترجمة موجزة دالة للأعلام ، وشرح المفردات الصعبة وبعض التصويبات.
- وضع المقدمة :
تكتب المقدمة بعد انتهاء العمل لكي تتضمن منهج المؤلف وأهمية الكتاب ويجب أن تتضمن المقدمة العناصر التالية :
* ترجمة مختصرة للمؤلف والسياق التاريخي والمعرفي الذي عاش فيه
* نبذة مركزة عن موضوع الكتاب والمصادر التي استقى منها مادته
* وصف المخطوطة من كل النواحي : عدد ورقاتها وقياساتها ومتوسط سطور الصفحة الواحدة ، وعدد الهوامش، والنسخ التي تمت المقارنة بها ، وأماكن وجودها وتاريخ كتابتها واسم الناسخ وصلته بالمؤلف ، وتاريخ النسخ..
7- الفهارس :
وهي عموما فهرس الأعلام ، والآيات القرآنية مرتبة بحسب ورودها في السور، ومصادر التحقيق، والأبيات الشعرية ، والمحتويات إلخ…
رابعا : طريقة التحقيق عند القدماء :
- تأويل الإشارات والتعليقات :
تتضمن المخطوطات بالإضافة إلى ما تحويه في متنها من معارف على معلومات إضافية يمكن أن يقع عليها الباحث في هذا المجال فتوجهه إلى اكتشاف بعض الأمور المهمة في الدراسة والتحقيق. ومما كان القدماء يهتمون به هو الملاحظات والتعليقات الموجودة في الحواشي وتواقيع المصنفين في آخر الكتاب. وكان العلماء المسلمون يتوقفون كثيرا عند الغلاف الداخلي للمخطوطة الذي يحتوى في بعض الأحيان على تواريخ الكتاب والعصر الذي عاش فيه المؤلف.
ومن الأمور التي كان القدماء يقفون عندها العبارات التي تلي ذكر اسم المصنف أو الأديب أو العالم أو الفقيه كقولهم “رحمه الله” أو “غفر الله له” أو “أطال الله عمره وأمده بالقوة” فإن هذه العبارات إشارات واضحة إلى أن النسخ قد حدث في حياة المؤلف أو بعد مماته.
- آداب تصحيح النص واحترام الرواية :
كانت الدقة والأمانة في النسخ من الشروط الأساسية التي يجب توفرها في الناسخ وكان القدماء يشترطون في الناسخ أن يكون ملما بالموضوع الذي ينسخه ومع ذلك لا يسلم النسخ من أخطاء. وكانت أوثق النسخ عندهم هي التي كتبها المؤلف بخط يده ووقع عليها وتليها تلك التي كتبها أحد أتباعه كما سمعها منه إملاء في حلقة الدرس أو بإشراف المؤلف نفسه، أو تلك التي صححها المؤلف نفسه وأجازها. وبعد ذلك تأتي النسخة التي كانت في حوزة عالم جليل مشهود له بالفضل أو التي وقع تداولها بين العلماء المشهورين في ذلك العصر. وكان القدماء يعتبرون معيار الأسبقية الزمنية معيارا لصحة نسبة المخطوطة إلى صاحبها.
- مقابلة مخطوطة بأخرى :
اتبع العلماء المسلمون طريقة علمية للتثبت من صحة المخطوطة هي المعارضة أو مقابلتها بمخطوطة أو مخطوطات أخرى من نوعها معارضة دقيقة للتوصل إلى المتن الصحيح. وقد اتبع هذه الطريقة اسحاق بن حنين الذي يذهب فرانز روزانتال إلى أنه أخذها عن التراث الذي كان معروفا في حلقات الترجمة السريانية اليونانية رغم أن اسحاق بن حنين يدعي أنه لم يسبق إليها.
- الاختصارات :
اتبع العلماء المسلمون قبل ظهور الطباعة أسلوب الاختصار وأصبح الكثير من الاختصارات متداولا بين النساخ ومتعارفا عليه. ويعزى إلى أبي جعفر السجاوندي الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي أنه وضع نظام الاختصارات التي ترمز لأماكن الوقف. ومن الاختصارات الشائعة إبان ازدهار الحضارة الإسلامية ما تضمنه كتاب الشفاء لأبن سينا : مح = محال ، مع = معلول ، لا محه = لا محالة ، لا يخ = لا يخلو ، كك = كذلك ، المقص= المقصود، ظ = ظاهر، يق = يقول، ح = حينئذ …إلخ.
كما يوجد نظام للاختصارات في مجال علم الفلك من أبرز اختصاراته : هـ = هرمز (Hermes) طم = بطليموس ، كند = الكندي ، شا = ما شاء الله، ش= سهل بن بشر…إلخ.
- الإشارة إلى مصادر الاقتباس :
لم تكن لدى العلماء والمؤلفين المسلمين قبل ظهور الطباعة طريقة خاصة للإشارة إلى نصوص سبق ذكرها أو صفحات سابقة وقد كان هذا النقص عند المؤلفين القدامى يؤدي إلى إرهاق القارئ كما أن إشاراتهم واقتباساتهم لم تكن دقيقة بما فيه الكفاية في كل الأحوال لأن المؤلف يحيل القارئ إلى “مؤلفات العلم الفلاني” أو إلى فصل من فصول أحد مؤلفاته دون تحديد دقيق للموضع وهذا ما نجده مثلا عند البيروني والمقريزي والتوحيدي وغيرهم والسبب في ذلك يعزى إلى الطابع الموسوعي للمعرفة عندهم.
- علامة انتهاء الاقتباس :
لا يجد قارئ الكتب القديمة مشكلة في بداية الاقتباس لكن الأمر على خلاف ذلك فيما يتعلق بنهايته. فكلمة “قال” دالة على بداية الاقتباس أو الرواية الشفوية كما تدل على استمراره إلا أن الشيء الذي لا نجده في كتابات القدماء هو علامة دالة على نهاية الاقتباس لأنهم كانوا يعتبرون ذلك عيبا وركاكة في الأسلوب ولم يتغير الوضع إلا مع بداية القرن الثالث عشر الميلادي.
ومن المصطلحات التي كانوا يستخدمونها للدلالة على بدء النقل والاقتباس : “هذا نص…” ، “هذا كلام …”، “هذه ألفاظ… “، “هذا قول…”، أو “هذا ما قاله…” . كما استعملوا أيضا عبارات من قبيل : “إلى هنا قول …”، “إلى هنا عبارة…”، “هذا نهاية كلام…”، “انتهى ما ذكره أو حكاه أو أورده…”، “انتهى كلام…أو قول …”، “آخر كلام…” . أما استعمال كلمة “انتهى” فقد جاء متأخرا بالمقارنة مع العبارات السابقة.
- مشكلة الهوامش :
لم يكن استعمال الهوامش معروفا عند القدماء بخلاف الحواشي التي أكثروا من استعمالها للتنبيه والتصحيح والشرح والتعليق والاستطراد.
ولا بد من الإشارة إلى أن بعض تلك النقائص يعزى أحيانا إلى الطابع الموسوعي للمعرفة واعتقاد القدماء بأن الأمر لا يعدو كونه تحصيل حاصل لدى القارئ أو إلى علامات تواضعية معروفة ومتداولة على نطاق واسع في تلك العصور.
الخاتمة :
وخلاصة القول هي أنه إذا كان المنهج ضروريا في شتى جوانب المعرفة فإنه في مجال الفلسفة يتماهي مع عملية إنتاج المعرفة ذاتها لا فرق بينه وبين الممارسة الفلسفية ذاتها فمنذ ديكارت لم تعد الفلسفة شيئا آخر غير استعمال العقل بطريقة منظمة تقود إلى الوصول بشكل مضمون إلى الحقيقة . وهذا يعني أن المنهج لم يعد مجموعة من الوصفات الجاهزة التي يتعين علينا تطبيقها بشكل حرفي في جميع العمليات الفكرية بل أصبح مسارا ديناميكيا من التأمل الشخصي يؤدي بالضرورة إلى خلق المفاهيم وحل المشكلات النظرية والعملية التي تواجه الإنسان في حياته اليومية بطريقة غير وثوقية.
المصادر و المراجع :
- جاكلين ريس ، طرق البحث في الفلسفة ، ترجمة البكاي ولد عبد المالك، مخطوط .
- جزيل تيسييه ، تقنيات البحث في العلوم التربوية ، عدة الباحث المبتدئ ، ترجمة البكاي ولد عبد المالك ، مخطوط.
- عبد الحميد الهرامة ، ورقات في البحث والكتابة ، كلية الدعوة الإسلامية ، طرابلس 2002.
4- فرانز روزانتال ، مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي ، ترجمة أنيس فريحة، الدار العربية للكتاب.
[1] Gilles Deuleuze, Pourparlers,éd. Minuit, pp.186-187.
[2] Kant, Logique ,Vrin , avant propos ,p.9.
[3] Paul Ricœur, in L’univers philosophique , P.U.F.,p.68.