إشكاليات العدالة الانتقالية في موريتانيا: بين فداحة الانتهاكات وتحديات التطبيق.
الدكتور ديدي ولد السالك
إن عمر انتهاكات حقوق الإنسان في موريتانيا ، هو عمر الكيان الموريتاني في العصر الحديث، الذي يمتد على مدى أكثر من قرن من الزمن، ، وتعود بدايات ذلك التاريخ إلى الحقبة الاستعمارية، عندما قررت السلطات الفرنسية سنة 1899 إنشاء ما يسمى بموريتانيا الغربية لدواعي إستراتيجية، مرتبطة بالسياسة الاستعمارية في المنطقة، وقد تميزت السياسة الاستعمارية الفرنسية في الأراضي الموريتانية، بالانتهاكات الواسعة والمنظمة لحقوق الإنسان، ورغم أن الجرائم التي ارتكبتها في موريتانيا ترقى إلى الجرائم ضد الإنسانية، فإنها لم توثق بما فيه الكفاية ولا يتم الحديث عنها في الأوساط المهتمة بقضايا حقوق الإنسان، و يقتصر الحديث فقط على الجرائم والانتهاكات التي حصلت بعد الاستقلال من الاستعمار وقيام الدولة الوطنية، بينما قام الاستعمار الفرنسي بالكثير من الجرائم، المصنفة اليوم ضمن قائمة الجرائم ضد الإنسانية .
لكن الأغرب في موضوع ملف حقوق الإنسان في موريتانيا، أنه يتم تناوله عادة بشكل تجزئي وانتقائي خاصة في العقدين الآخرين ، بالتركيز على الانتهاكات والجرائم التي حصلت بحق بعض أطراف الأقلية الزنجية، ويتم التغاضي عن الممارسات التي استهدفت العنصر العربي ، بغض النظر عن حجمها ونوعها، وهذه النظرة التجزئية الانتقائية لملف حقوق الإنسان بموريتانيا، من بين العوامل المعرقلة لتطوره وأخذه المسار الطبيعي للتعامل معه، المفضي إلى تصفيته بما يحقق العدالة والإنصاف لكل الذين تضرروا منه، مهما كان لونهم أو انتماءهم العرقي أو الثقافي، وذلك بتطبيق العدالة الانتقالية بوصفها آلية أثبتت نجاعتها لمعالجة وتصفية ملف الإرث الإنساني في العديد من بلدان العالم، وهذه الوضعية هي التي تفسر عدم غلق هذا الملف، رغم محاولات الأحكام المتعاقبة تسويته وإنهائه، لكن المعاجلة التجزئية والبعيدة عن مبادئ العدالة الانتقالية والإنصاف، هي التي مكنت بعض الأطراف المعنية بالملف من تركه مفتوحا يساعدها في ذلك بعض منظمات حقوق الإنسان الناشطة في موريتانيا ذات الطبيعة العرقية، ولا يعود العجز المستمر عن تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية في موريتانيا، إلى غياب الإرادة السياسية فقط، وإنما نتيجة ضخامة التحديات التي تواجه تطبيق هذه المبادئ، وكذلك تشعب وتداخل خلفيات تلك التحديات. .
فحقوق الإنسان تم انتهاكها بشكل واسع وممنهج في موريتانيا من قبل الاستعمار الفرنسي، كما تم انتهاكها باستمرار خلال العقود الماضية من عمر الدولة الوطنية، وشاركت في ذلك كل الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في هذا البلد، بغض النظر عن طبيعتها ، سواء كانت مدنية أو عسكرية، كما شملت تلك الانتهاكات كل قوى المجتمع الموريتاني الحية، وكذلك كل أعراقه وشرائحه وفئاته، وهي الممارسة التي لم يكن فيها تمييز بين الأعراق، والعامل المشترك وراء انتهاك حقوق الإنسان في موريتانيا، هو معارضة النظام القائم سواء كان أصحاب ذلك الموقف عسكريين أو مدنيين.
و مازالت كل الأطراف عاجزة عن التعاطي مع قضايا حقوق الإنسان، سواء كانت منظمات حقوقية أو أفراد، نتيجة التشابك الاجتماعي والتعدد العرقي في موريتانيا،
في حين أن التعاطي معه يقتضي الحكمة والمسؤولية، والنظرة إليه في شموليته ، وإدارته بكل أبعاده وتداخلاته ، بعيدا عن التحيز العرقي أو الفئوي أو الشرائحي، عبر الأخذ بمبادئ حقوق الإنسان في أبعادها الكونية، بعيدا عن التعاطي والتعامل مع هذا الملف بمنطق الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي والتخندق الإيديولوجي من قبل مختلف الفاعلين في موريتانيا، كما هو حاصل الآن، مما يعقده ويعطل إمكانيات حله، وسنعمق كل ذلك من خلال المحورين التالين :
المحور الأول : مسار تطور المظالم في موريتانيا
إن القرن الماضي من عمر الدولة الموريتانية، تميز بالانتهاكات الواسعة والممنهجة ضد حقوق الإنسان، وقد شملت تلك الانتهاكات والجرائم كل أعراق وفئات المجتمع، وتعددت أسبابها وتنوعت خلفياتها ومظاهرها بتعدد مرتكبيها واختلاف مراحلها، والتبيان في دوافع الأطراف في انتهاك حقوق الإنسان، في حين كانت خلفية السياسة الاستعمارية قائمة على الإكراه والقسر من أجل الإخضاع والولاء لدولة الاستعمار، بينما تباينت سياسات الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في ظل الدولة الوطنية في مجال حقوق الإنسان، بين فترة الحكم المدني والحكم العسكري، من حيث خلفيات وأسباب انتهاك حقوق الإنسان، ففي الوقت الذي تعددت تلك الأسباب في العهد المدني، كان الهاجس الأمني والحفاظ على بقاء النظام، هي الخلفية الغالبة على انتهاك حقوق الإنسان، في فترة الحكم العسكري.
أولا : ممارسات دولة الاستعمار ضد حقوق الإنسان.
لقد اعتمدت فرنسا خلال استعمارها للأراضي الموريتانية ما بين 1900 – 1960، سياسة الأرض المحروقة والعقاب الجماعي للسكان الأصليين، حيث ارتكبت الكثير من الجرائم : كالقتل الجماعي لعناصر المقاومة بدون أي نوع من انواع المحاكمات، حتى ولو كانت صورية، العقاب الجماعي للأسر والقبائل التي تعارض السياسة الاستعمارية أو قام بعض أفرادها بالانضمام للمقاومة، خاصة في الفترة ما بين 1900 – 1936، أو لم ينفذوا تعليمات وأوامر ضباط الاستعمار حرفيا، حيث كانت في هذه الحالة تتعرض لحرق وإتلاف ممتلكاتها كعقاب جماعي، ونفس الشيء بالنسبة للجماعات المشكوك في ولائها للاستعمار، وكذلك تعريض الكثيرين لأعمال الصخرة والأعمال الشاقة، عبر إجبار الأهالي على خدمة إدارة وجيش الاستعمار بدون مقابل ، مصادرة الممتلكات بدون أي ترتيبات قانونية أو قضائية ، الاقتلاع الجماعي لبعض الأهالي والقبائل من أراضيها الأصلية وترحيلها إلى مناطق أخرى حسب مصالح الإدارة الاستعمارية[1].
لكن أخطر السياسات الاستعمارية في مجال انتهاكات حقوق الإنسان في موريتانيا، هي الانتهاكات المتعلقة بالثقافة والهوية العربية الإسلامية للمجتمع، عبر سعيها لاقتلاع الأهالي من جذورهم الثقافية، من خلال العمل على القضاء على الثقافة العربية الإسلامية وإحلال محلها الثقافة واللغة الفرنسية، بإجبار السكان الأصليين على إرسال أطفالهم إلى المدارس الفرنسية ومنعهم من تعلم اللغة العربية، ومضايقة التعليم الأصلي ومحاصرة مؤسساته الأساسية “المحاظر” -الجامعات البدوية- بوصفها معاقل للثقافة العربية الإسلامية[2]، ووصل الأمر بالمستعمر في سعيه إلى القضاء على الهوية الثقافية ومعالم الشخصية الحضارية لساكنة الفضاء المعروف “بأرض البيظان”، بإحلال اسم موريتانيا محل أسم شنقيط، التي كانت تعرف به هذه البلاد في الديار العربية الإسلامية، قبل فترة الاستعمار[3] .
ثانيا : انتهاك حقوق الإنسان في ظل الحكم المدني {1960 – 1978}
1 – أحداث 1966 ذات الطابع الثقافي العرقي.
لقد انتفض الطلاب الزنوج في عام 1966رفضا للتعريب، وكانت تلك الأحداث أبرز مظاهر الصراع بين الأغلبية العربية والأقلية الزنجية، عبر بوابة السياسة والهوية الثقافية، وبالذات من خلال الحاضنة الأساسية لتلك الثقافة أي اللغة العربية، وشكل القرار الذي اتخذته حكومة الاستقلال برئاسة المرحوم المختار ولد داداه بإدخال اللغة العربية إلى التعليم السبب المباشر لتلك الأحداث، والذي عقد الأمر أكثر وجعل تداعياته تستمر، مساندة مجموعة من أطر ومثقفي الزنوج حركة الطلاب، بإصدارهم بيانا شهيرا عرف “ببيان مجموعة 19 إطارا”، وقتل أثناء تلك الأحداث العديد من الأفراد بفعل تدخل الجيش لضبط الأمن[4]، مما شكل البداية الفعلية للإرث الإنساني في الدولة الوطنية، حيث لم تتم تسوية آثار تلك الأحداث بشكل قانوني، وكل ما تم القيام به بخصوص هذا الملف هو تسويات سياسية.
2 – إحداث 1968 بمدينة إزويرات ذات الطبيعة المطلبية.
لقد عرفت مدينة أوزيرات المنجمية في أقصى شمال موريتانيا، أحداثا مؤلمة في 29 مايو 1968، كان باعثها مطالب اجتماعية نقابية، حيث كانت كلفتها الإنسانية باهظة، ثمانية قتلى وأربعة وعشرون جريحا، وجاءت هذه الأحداث على خلفية مطالبة العمال الموريتانيين للشركة الفرنسة التي تستغل مناجم الحديد في موريتانيا بإعطائهم حقوقهم، لكن تدخل الجيش بالسلاح الحي أدى إلى هذه المأساة[5].
3 – سجن وتعذيب أعضاء حركة الكادحين، على خلفية المعارضة السياسية(1968- 1974).
كانت التداعيات السياسية والاجتماعية والثقافية لإحداث إزويرات 1968 كبيرة جدا، نظرا لأهميتها الاستثنائية في إطلاق شرارة النضال الوطني من أجل استكمال الاستقلال وتحقيق المزيد من العدالة، وقاد هذه المطالب، التيار اليساري المعروف باسم :”حركة الكادحين”، باعتباره هو القوة السياسية المنظمة الأساسية بالبلاد في ذلك الوقت، كما يحسب لتلك الحركة، أنها هي القوة السياسية الأولى التي عارضت نظام المختار ولد داداه ما بين {1968 – 1974}، مما جعله يواجهها بكثير من القسوة، فامتلأت منها السجون، وتعرض أعضائها للتعذيب والمطاردة والفصل من العمل[6]، والانتهاكات التي تمت في حق هذه الحركة لم يتم تسويتها حتى الساعة، بجبر الأضرار لأصحابها، ومعاقبة مرتكبي تلك الانتهاكات الجسيمة.
ثالثا : انتهاكات حقوق الإنسان في العهد العسكري، {1978 – 2008}.
أ – مطاردة الحركات السياسية، على خلفية مواقفها السياسية.
تميز حكم العسكر في موريتانيا بالانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، عبر سجن معارضيهم والتضييق على الحريات ومطاردة كل من يخالفهم الرأي مهما كان رأيه أو انتمائه، ومن أمثلة ذلك :
1 – اعتقالات ومطاردة حركة الحر1980.
في سنة 1980 قامت السلطة العسكرية الحاكمة آنذاك بملاحقة حركة الحر ذات الخلفية الاجتماعية، بوصفها هي أول حركة تتبنى مطالب شريحة لحراطين، وهي الشريحة المنحدرة من أبناء الأرقاء السابقين، ومطالبها ذات طابع اجتماعي فئوي .
حيث قامت السلطات العسكرية في سنة 1980، باعتقال جميع أعضاء قيادتها وبعض عناصرها الفاعلة، مع تعريضهم للتعذيب ومحاكمتهم أمام محكمة عسكرية استثنائية في بمدينة روصو ، وكانت تلك المحاكمات تفتقد لكل معايير المحاكمة العادلة، وتم الحكم عليهم بشكل جماعي بالإقامة الجبرية[7] .
2 – اعتقالات التيار العبثي 1982 – 1995.
– 1982 – شن الرئيس محمد خونا ولد هيداله، النظام العسكري الحاكم آنذاك اعتقالات واسعة في صفوف أعضاء حزب البعث العربي الاشتراكي فرع موريتانيا، على خلفية معارضتهم الشديدة لسياساته وأساليب حكمه الاستبدادي، وقد تعرضوا خلال تلك الاعتقالات للتعذيب الشديد، وقد أحيل في هذه الاعتقالات إلى المحاكم الخاصة 55 بينهم 5 نساء بتهمة المساس بأمن الدولة، كما أصدرت في حقهم أحكام قاسية، بعد محاكمتهم أمام محكمة عسكرية لا تتوفر على معايير المحاكمة العادلة، كما تعرض من بقي منهم خارج السجن للمطاردة المستمرة والفصل التعسفي من الوظائف الحكومية[8]،
– 1995 – تعرض نفس التيار لحملة اعتقالات واسعة 1995 على يد نظام معاوية ولد سيد أحمد الطايع، وشملت تلك الاعتقالات عشرات من قيادات وأعضاء التيار، وقد تعرضوا للتعذيب والفصل من الوظائف، والمفارقة العجيبة في هذه الاعتقالات، أنها تمت في ظل نظام يدعي أنه نظام ديمقراطي، ويتضح ذلك أكثر في أنه من بين المعتقلين قيادات في أحزاب سياسية، من ضمنها الحزب الحاكم آنذاك، الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، أي حزب الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع، مما يبرز صورية الممارسة الديمقراطية، وأن النظام في جوهره بقي نظاما عسكريا في سلوكه وممارساته[9] .
3 – اعتقالات التيار الناصري 1983.
في عام 1983قام النظام العسكري الحاكم أتذاك، أي نظام المقدم محمد خونا ولد هيداله، بحملة اعتقالات عشوائية واسعة في أوساط التيار الناصري، وتمت ممارسة التعذيب والعنف ضد المعتقلين من هذا التيار، مما أدى إلى موت شخصين تحت التعذيب.
4 – حركة أفلام والمواجهة المفتوحة مع النظام العسكري 1986 – 1991.
بعد صدور بيان “إعلان الزنجي الموريتاني المضطهد” 1986، قام الأمن بعمليات اعتقال واسعة ضد الأطر المدنيين من الزنوج وخصوصا من قومية “الهالوبولار”، شملت العشرات من أطر هذه القومية، ولقد كان هذا البيان بوابة الأزمة العنيفة بين الزنوج ونظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، وهي المواجهة المفتوحة التي استمرت خلال السنوات الموالية من عمر هذا النظام ما بين 1986 – 1991، وقد صاحبها الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان في صفوف الأقلية الزنجية بصفة عامة وقومية “الهالوبلار” بصفة خاصة[10].
5 – اعتقالات التيار الإسلامي، 1994 – 2003 – 2004.
ما بين سنوات 1994 و 2003 و 2004 شن نظام الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع، حملا ت و اعتقالات متكررة ضد التيار الإسلامي، شملت العشرات من مختلف تشكيلاته وقياداته، وقد صاحب تلك الاعتقالات الكثير من ممارسات التعذيب الجسدي والنفسي، وكذلك الفصل والتسريح من الوظائف العمومية، بدعوى تهديد هذا التيار للأمن الوطني، وارتباطه بالجهات الخارجية وبالذات التنظيمات الجهادية المتطرفة، وقد بينت الإحداث فيما بعد، أن التهم الموجهة لهذا التيار ملفقة، والغرض منها هو تشويهه وجلب التعاطف الدولي للنظام، بدعوى أن موريتانيا مهددة بالإرهاب.
ب – انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بالصراعات داخل المؤسسة العسكرية.
1 – محاولة الانقلاب العسكري في 16 مارس 1981.
في 16 مارس 1981، قامت مجموعة عسكرية قادمة من المغرب بمحاولة انقلاب عسكري، وكانت هي أول محاولة انقلابية ذات طابع دموي، وقد راح ضحية هذه المحاولة الانقلابية مجموعة من الضحايا، من مدنيين وعسكريين بفعل تبادل إطلاق النار بين الانقلابيين والمواليين لنظام المقدم محمد خونة ولد هيدالة، وقد تم إعدام الضباط الكبار الذين قادوا الانقلاب، بعد محاكمات صورية، أمام محكمة عسكرية لا تستجيب لمعايير المحاكم العادلة[11].
2 – التسريح والفصل التعسفي المتكرر لضباط المؤسسة العسكرية.
- 1982 – تسريح وفصل تعسفي لمجموعة من ضباط الجيش، بسبب خلفيتهم البعثية.
- 1987 تصفيات دموية لمجموعة من ضباط الزنوج ، حاولوا تنفيذ انقلاب عسكري، خاصة من مجموعة عرقية “الهالبولار”، بعد إصدار أحكام قضائية ضدهم لا تخضع لشروط المحاكمات العادلة ، كما تم تسريح وفصل تعسفي داخل المؤسسة العسكرية لأبناء هذه القومية.
- 1988 في صيف هذه السنة قام نظام معاوية ولد سيد أحمد الطايع، بحملة اعتقالات في صفوف حزب البعث فرع موريتانيا، تعرضوا فيها لشتى صنوف التعذيب الجسدي والنفسي ، وفيما تم تسريح وفصل 417 من العسكريين من مختلف الرتب بتهمة الانتماء ( فكرياً ) لحزب البعث العربي الاشتراكي ، كما تمت محاكمة القيادات السياسية وصدرت بحقهم أحكاماً بالسجن والتسريح والفصل التعسفي، لأكثر العناصر المدنية في مختلف المؤسسات الحكومية، خاصة من القيادات على خلفيتهم الفكرية والسياسية.
- 1987 – 1992 ، تقدم بعض الروايات عن هذه الفترة من حكم العسكر في موريتانيا، أنه تم إعدام وقتل ما يتجاوز 524 فردا من المؤسسة العسكرية من الضباط وضباط الصف والجنود[12]، خارج كل الأطر القانونية، وقد تبع ذلك بتسريح وفصل تعسفي متلاحق للزنوج من الجيش، خاصة من قومية “الهالوبلار[13]“.، ولتأكيد تلك المعلومات تذهب بعض الروايات إلى أن المقابر الجماعية لهؤلاء، موزعة في أنحاء الأراضي الموريتانية، ما بين :مركز ” إينال” ومنطقة “سوريمالي: وقرى “العزلات” و”تيكنت” والكيلومتر 34.
- 2003 المحاولة الانقلابية الدموية الفاشلة، التي نفدها “فرسان التغير” ضد نظام ولد الطايع، وقد راح ضحيتها عدد من أفراد المؤسسة العسكرية، على رأسهم قائد أركان الجيش، الذي قتل في مكتبه، كما قتل فيها بعض الضباط خاصة من الحرس الرئاسي، وبعد إحباطها من قبل النظام الحاكم آنذاك ، قام بسجن العشرات من ضباط الجيش وتسريح وفصل الكثير منهم دون محاكمة أو إعطائهم أي حقوق، وقد تجاوز عددهم أربعين ضابطا[14]، ورغم حجم ضحايا تلك العملية، فإن النظام لم يقم بإجراء تحقيق مستقل ولم يجبر الأضرار للذين ثبتت براءتهم أو تضررت مصالحهم.
- 2004 أعلن نظام ولد الطايع عن إحباط محاولة انقلابية، كان يحضر لها بعض ضباط المؤسسة العسكرية، وعلى إثرها قام بتسريح وفصل عشرات من مختلف تشكيلات الجيش الوطني، بشكل تعسفي وبدون محاكمات[15].
رابعا : تداعيات الأزمة بين موريتانيا والسنغال عام 1989 .
لقد كان للإحداث بين موريتانيا والسنغال في 1989 ، تداعيات كبيرة ومستمرة، راح ضحيتها مئات الموريتانيين قتلا وحرقا على يد متطرفين وعسكريين سنغاليين، حيث شمل الضرر الجالية الموريتانية بالسنغال بشكل عام ماديا ومعنويا، المقدر عددها آنذاك ب 65000 ألف، ورغم أنه لا يمكن تحديد عدد دقيق للذين لقوا مصرعهم في السنغال، لعدم وجود حصر لأفراد الجالية الموريتانية، ولانتشارهم في كافة القرى بعيداً عن عيون المراقبين الأجانب المحايدين، فإنه مع ذلك توجد بعض التقديرات المتضاربة أشد التضارب، فالتقدير السنغالي الرسمي تضمن 60 قتيلاً ارتفع إلى 100 لدى بعض المصادر الصحفية، في حين قدم المسئولون الموريتانيون للوسطاء الأفارقة، في صيف 1989، رقم 873 قتيلاً[16].
ليرتفع في الكتاب الأبيض الموريتاني إلى ألف قتيل[17]، كما جُرحت أعداد كبيرة منهم، بعضهم جراحه خطيرة، نتجت عنها عاهات مستديمة.
ونفس الشيء حصل مع الجالية السنغالية في موريتانيا، وهي جالية كبيرة جدا تقدر أعدادها في ذلك الوقت بحوالي 170 ألف[18]، رغم عدم وجود حصر دقيق للمهاجرين السنغاليين في ذلك الوقت يمكن الاعتداد به، فإن بعض المصادر تقدر أن عدد القتلى من السنغاليين تراوح ما بين 70 إلى 200 قتيل[19] ، مع التضارب في الأرقام التي يقدمها كل طرف. لكن الخطير في الأزمة بين موريتانيا والسنغال صيف 1989 تداعياتها المستمرة، لعمليات التسفير الجماعية المتبادلة بين البلدين، مع الفارق بين وضعية الجاليتين، فالجالية الموريتانية من التجار الذين يمتلكون ثروات معتبرة، بينما الجالية السنغالية في أغلبيتها من العمال اليدويين، الذين يمارسون مهنا بسيطة، لكن تداعيات الأزمة لم تقتصر على هذا، بل شملت تسفير المواطنين من أصول البلد الآخر بشكل متبادل، وهو ما نتجت عنه أزمة مستمرة في الزمن، إنسانية ونفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية لم تسو إلى اليوم[20] .
خامسا : مخلفات الرق في موريتانيا:
رغم أن موريتانيا تتمتع بترسانة قانونية ضخمة لمواجهة الرق عبر مصادقتها على كل الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالموضوع، التي تمنع المتاجرة بالبشر أو استرقاقه، فإن ظاهرة الرق ما زالت موجودة ومخلفاتها الاجتماعية والنفسية والثقافية مستمرة بشكل يؤثر على مسار تطور المجتمع الموريتاني وانسجامه[21].
وقد تم إلغاء الرق في موريتانيا في أربعة مناسبات خلال مسار طويل زمنيا، في المرة الأولى كانت بقرار من الاستعمار الفرنسي عام 1905 تطبيقا للقانون الفرنسي الصادر 1848 على الأراضي الموريتانية، القاضي بإلغاء كل أنواع العبودية، وفي المرحلة الثانية كانت من خلال نصوص دستور 1961، الذي كرسها عبر ضمان المساواة بين كافة الموريتانيين، والمرحلة الثالثة، كانت بإصدار أمر قانوني يقضي بإلغاء العبودية في كافة الأراضي الموريتانية سنة 1981[22]، وقد تعززت تلك المدونة بقانون يجرم الرق والعمل من أجل القضاء على كل مخلفاته، الصادر عن البرلمان الموريتاني في العام 2007، هذا بالإضافة إلى نصوص الدستور الموريتاني الحالي، أي دستور 20 يوليو 1991، والذي جاءت نصوصه صريحة في المساواة بين كافة شرائح المجتمع الموريتاني، مع مركزية الحرية والمواطنة في نصوصه، وقد تم إبراز ذلك أكثر في هذا الدستور بعد تعديله 2011، بالتنصيص بشكل واضح على تجريم كل أنواع ممارسة الرق، لكن من الواضح، أن كل ذلك لم يؤدى إلى القضاء على هذه الظاهرة الاجتماعية المعقدة، ويفهم من ذلك أن نتيجة السياسات العمومية في مواجهة الرق ومخلفاته، أدت إلى ثراء في القوانين وفقر واضح في التطبيق، واستمرار معاناة شريحة لحراطين بصفة عامة في موريتانيا.
المحور الثاني : تحديات تطبيق العدالة الانتقالية في موريتانيا.
لقد تم طرح قضايا حقوق الإنسان بقوة في موريتانيا خلال العقود الثلاثة الماضية، من قبل المنظمات الدولية والمحلية المعنية بالموضوع وكذلك القوى السياسية المتعاطفة مع ضحايا الانتهاكات والرافضة بصفة عامة لسياسات الأنظمة العسكرية المتعاقبة على الحكم في موريتانيا، مطالبة بتسويته وتجاوز ما صار يعرف بملف الإرث الإنساني، عبر تطبيق آليات العدالة الانتقالية، كوسيلة أثبتت نجاعتها في معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في العديد من دول العالم، من خلال جبر الضرر للضحايا وتجاوز الآثار النفسية والسياسية لتلك الانتهاكات، مما يساعد على المصالحة الوطنية وترسيخ قيم العيش المشترك وبناء دولة الحق والقانون والمؤسسات. لكن من الواضح أن الأنظمة المتعاقبة في موريتانيا تهربت من تطبيق آليات العدالة الانتقالية، كما لم تنجح في غلق ملف حقوق الإنسان لحجم التحديات التي تواجه إنهاء هذا الملف، لتعقيدات الإرث الإنساني وكثرة العوامل المتداخلة فيه، وبصفة عامة فإن السلطات الموريتانية المتعاقبة تعاملت، مع هذا الملف بطرق مختلف من أبرزها:
1 – التجاهل
2 – التعويض الجزئي.
3 – التعويض والاعتذار ذي الطابع العرقي.
ورغم تلك المحاولات، فإن ملف الإرث الإنساني في موريتانيا بقي مفتوحا، لحجم التحديات المطروحة، في مواجهة معالجته، والتي من أهمها:
أولا : غياب رؤية شمولية لمعالجة ملف الإرث الإنساني في موريتانيا.
منذ فتح موضوع حقوق الإنسان في موريتانيا في عقد التسعينات من القرن العشرين، لم ينجح أي طرف من الفاعلين في هذا الملف في طرحه بشكل شمولي، كما أن الجهات الرسمية، لم تستطع تقديم رؤية متكاملة لتصفيته بشكل نهائي، وإنما تم التعامل مع هذا الملف بشكل سياسي انتقائي، وفئوي وتحويله من مشكل وطني عام ، يتعلق بقضايا حقوق الإنسان وتصفية الإرث الإنساني وضرورة تطبيق العدالة الانتقالية في موريتانيا، إلى ملف سياسي بيد السلطة والحركات السياسية، يخضع للمزايدة السياسية والاستخدام الفئوي والشرائحي والعرقي.
ثانيا : تطرف مطالب بعض أطراف الأقلية العرقية في موريتانيا .
لقد تميز طرح ملف حقوق الإنسان خلال العقود الماضية بالانتقائية في موريتانيا، كما تم طرحه بشكل عرقي بامتياز يهتم بحقوق بعض أطراف الأقلية الزنجية، ويتجاهل ما تعرض له بقية القوميات الأخرى خاصة الأغلبية العربية، وقد غذى هذا التوجه التدخل الخارجي المستمر في شؤون موريتانيا خاصة من قبل فرنسا، التي ظلت تدعم تحرك الأقليات في مستعمراتها السابقة، كورقة للاستخدام عند الحاجة، وأن بعض أطراف الأقلية الزنجية تضررت أكثر من غيرها، خاصة مجموعة “الهالوبلار”، وهي عوامل دفعت بهذه المجموعة إلى التطرف في مطالبها، والخلط بين المطالب السياسية والمطالب المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان وبالذات الانتهاكات الجسمية في مجال حقوق الإنسان، مما عقد حل ملف الإرث الإنسان، وجعله مفتوحا باستمرار، ومن أمثلة ذلك:
1 – المطالبة بمحاكمة العديد من أعضاء المؤسسة العسكرية والطواقم الإدارية العاملة في مختلف أجهزة الدولة من العنصر العربي، بغض النظر عن هل شاركوا فعلا في إعدام وتشريد الزنوج الموريتانيين خلال سنوات التسعينيات من القرن العشرين، بمن فيهم الرئيسان السابقان معاوية ولد سيدي أحمد الطايع والعقيد اعل ولد محمد فال، ومن حق ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان طبعا، المطالبة بمحاكمة ومعاقبة كل المسؤولين عن تلك الانتهاكات، لكن الذي عقد الأمر هنا أن المطالبة اكتست طابعا عرقيا، مما يجعلها قابلة للتأويل والاستخدام السياسي، العامل الثاني المطالبة بمحاكمة رؤساء في بلد غير ديمقراطي، قد يضيع على الضحايا حقوقهم، وقد يكون أفضل لهم سلك طرق أخرى لجبر الضرر والتعويض، كما حصل في جنوب إفريقيا.
- – تعمد الخلط بين المطالب ذات الطبيعة الثقافية والسياسية، والمطالبة بمعالجة ملف انتهاكات حقوق الإنسان التي تمت في العقود الماضية، مثل المطالبة بدعم الخصوصيات الثقافية للزنوج الموريتانيين، عبر تدريس لغاتهم الوطنية وتحويلها إلى لغة رسمية دستوريا، والاحتفاء بالتاريخ والتراث الزنجي، وهذا طبعا من حقهم، لكن خلطه مع مطالب حقوق الإنسان المتعلقة بالانتهاكات، يعقد الأمور ويساهم في تميعها وإفلات الجناة الفعليين من العقاب.
3 – مصاحبة المطالب المتعلقة بحقوق الإنسان بمطالب أخرى ذات طبيعة سياسية اقتصادية، مثل : المطالبة بتقاسم الثروة والسلطة وإنهاء احتكار ما يطلقون عليه ” الأقلية البيضاء” للمال والسلطة.
ثالثا: تزايد العوامل التي تغذي التخندق العرقي.
لقد زاد من التخندق العرقي و الفئوي في موريتانيا، تراجع قيم الوطنية واحترام رموز الدولة ، بفعل انتشار الفساد المعمم وترهل هياكل الدولة وعدم الاستقرار السياسي المزمن، وبالتالي يكون من الطبيعي انتشار الظواهر السلبية المعادية لمنطق الدولة والسلطة، كالشحن العنصري المتواصل من بعض الفاعلين السياسيين، الذين يتخندقون وراء مطالب الأقليات العرقية والفئات الاجتماعية في موريتانيا، الأمر الذي يزيد في تعميق الأزمة، بالإضافة إلى الكثير من العوامل، التي تغذي جو الكراهية المتفاقم بين مختلف أعراق وشرائح مكونات المجتمع الموريتاني، والتي من أبرزها:
1 – أزمة التعليم المستمرة في موريتانيا.
فاستمرار أزمة التعليم وتدهور مستوياته، ووجود مدرستين ونظامين تعليميين، يخرجان أجيال مختلفة اللغة والثقافة، ولا يتواصلان مع بعضهما البعض، يساهم في تفاقم الشعور بالخصوصية ويزيد في التمايز العرقي، مما يعمق الاصطفاف الثقافي والسياسي والإيديولوجي.، على أسس غير وطنية.
2 – الفقر الشديد الذي يقبع فيه أغلب الشعب الموريتاني وبخاصة شريحة لحراطين، مما يولد نقمة دائمة على الدولة التي يختطفها “الإنسان الأبيض” وفق أدبيات المناوئين للرق.
3 – فشل السياسات التنموية وانتشار الفساد في دوائر الحكم الموريتاني.
4 – تورط الجوار الإقليمي في تغذية الصراع العرقي، بفعل الامتدادات الاجتماعية للأقليات العرقية والشرائح والفئات المكونة للمجتمع الموريتاني في أغلب دول الجوار.
رابعا : دور تداخل العوامل الاجتماعية والاقتصادية في استمرار ظاهرة الرق.
لقد طرح موضوع العبودية في موريتانيا بإلحاح خلال العقود الماضية، وجاءت أغلبية التقارير الدولية المهتمة بقضايا حقوق الإنسان، تتهم الجهات الرسمية في موريتانيا بالتغاضي عن ممارسة الرق وتشير إلى جيوب للعبودية في مختلف مناطق البلاد، باعتباره موضوعا متعدد الإبعاد يلاحق الأنظمة السياسية المتعاقبة على الحكم في موريتانيا، مما جعله الموضوع الأكثر تأثيرا على مناخ التعايش السلمي بين مكونات المجتمع ويهدد السلم الأهلي والاستقرار السياسي، لتعقيدات هذا الموضوع وتداخل العوامل الحقوقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى النفسية فيه، وبالتالي لا يمكن حله بقرار سياسي ولا يكفي لإنهائه إصدار تشريعات، ويعود تعقيد ظاهرة الرق في موريتانيا واستمرارها، إلى جملة من الأسباب، من بينها:
-1 – الاتساع الديمغرافي لقاعدة لحراطين، والتزايد الكبير لأعداد تلك الشريحة[23]، جعل معالجة الرق ومخلفاته، تتطلب إمكانيات اقتصادية ومالية وبشرية كبير، وكذلك بنية مؤسسية واستقرارا سياسيا، وهي عوامل لم تتوفر بعد للدولة الوطنية الموريتانية.
2 – اتساع قاعدة الفقر والجهل في صفوف هذه الشريحة بفعل التهميش الذي موريس عليها تاريخيا، مما يجعلها غير قادرة على النهوض بأوضاعها والخروج من الحلقة المفرغة للتهميش، فشريحة لحراطين، تمثل نسبة عالية من هرم الفقر، الذي كاد أن يوحد الموريتانيين تحت عباءته الشاحبة، أي أنهم حسب بعض الإحصائيات يمثلون حوالي 80 بالمائة من الفقراء[24].
3 – فشل التعليم العمومي، الذي كان يعول عليه في السابق كرافعة أساسية لترقية الأفراد وتذويب الفوارق الاجتماعية، وسلما للترقية الاجتماعية، وصولا إلى المساواة الحقيقية، في حين أن واقع المدرسة العمومية في موريتانيا اليوم، يشير إلى أنها لم يعد بإمكانها التغيير في عمق الروابط الاجتماعية ولا تكوين مواطنين مثقفين صالحين للاندماج في موريتانيا جديدة عادلة وموحدة، ومن أبرز مظاهر ذلك، وجود مدرستين بمعايير مختلفة : مدرسة خصوصية للطبقات الوسطى والعليا و مدرسة عمومية لأبناء الطبقات المحرومة والشعبية التي يشكل لحراطين غالبيتها العظمى.
- – فشل الدولة الوطنية في تحقيق أهداف التنمية.
سيكون من المستبعد تسوية ملف الرق في موريتانيا قبل تقدمها اقتصاديا ونهضتها ثقافيا واجتماعيا وتطورها سياسيا، فملف الرق في موريتانيا تتداخل فيه كثير من العوامل، ولن يتم التخلص منه قبل تضافر جملة من العوامل غير متوفرة حاليا ، وما يعزز من تلك الفرضية، هو أن كل مؤشرات التنمية حاليا سلبية في موريتانيا .
خامسا: تأثير غياب ثقافة حقوق الإنسان.
من المعروف أن المجتمع الموريتانى في تركيبته الاجتماعية، يقوم على بنية طبقية هرمية، تتفاوت فيها قيمة البشر حسب المكانة الاجتماعية في تلك البنية الهرمية، وبالتالي فالثقافة الاجتماعية لا تنظر إلى الإنسان من خلال كينونته البشرية وتحترمه انطلاقا من ذلك، بوصفه انسانا مكرما لإنسانيته بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، وإنما ينظر إليه انطلاقا من مكانته الاجتماعية ومنزلته التي أعطيت له بحسب سلالته ونسبه، ومن هناك يكون تحقير الإنسان والنظرة له بدونية أو الرفع من شأنه بحسب الثقافة السائدة والقيم الاجتماعية المتوارثة، ليس نابعا من قيمته الذاتية أي ثقافته وقيمه وعطائه، وإنما تنبع من المكانة التي أعطاه المجتمع وفقا للتراتبية الاجتماعية المقدسة، والمفارقة أن هذه القيم مناقضة لجوهر رسالة الإسلام، التي كرمت بني آدم ونظرت إليه انطلاقا من إيمانه وعمله بعيدا عن أي اعتبارات أخرى.
وتزداد هذه الممارسات حدة كلما كان المجتمع أقرب إلى البدائية أو يخضع لقيم البداوة، والمجتمع الموريتاني في أغلبيته مجتمعا بدويا وينتمي بالثقافة والعادات بشكل شبه كامل، إلى قيم البداوة، وما يزال حديث العهد بالمدينة وقيمها، ومن هنا نفهم مدى بعده عن قيم وثقافة حقوق الإنسان التي هي وليدة ثقافة المدينة والعمران وما يتطلبه من ضوابط العيش المشترك واحترام الآخر، فثقافة حقوق الإنسان هي تراكم لقيم العيش المشترك التي تعززت في ظل الليبرالية الحديثة والممارسة الديمقراطية المكرسة لقيم وثقافة حقوق الإنسان.
سادسا : تمسك العسكر بالسلطة.
لقد أظهرت تجربة العسكر في السلطة عبر العالم، أن ممارستهم في الحكم نقيض للممارسة الديمقراطية بصفة خاصة والحياة السياسية بشكل عام وكذلك نقيض لاحترام حقوق الإنسان، بل أن ممارسة الأنظمة العسكرية تميزت بالاستبداد والاعتداء على حقوق الإنسان في مختلف البلدان التي حكموها، وهذا ما أكدته تجربة العسكر في موريتانيا وممارستهم للسلطة، منذ توليهم للحكم عام 1978 إلى اليوم، حيث تميز حكمهم بالانتهاكات المستمرة والممنهجة لحقوق الإنسان، وبالتالي سيكون من المستبعد تسوية نهائية لملف حقوق الإنسان في موريتانيا ما دام العسكر في الحكم أو تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية، لأن تطبيق العدالة الانتقالية مربوط بسلطة ديمقراطية تحوز الشرعية والمشروعية، لأن تلك الشرعية والمشروعية هي التي تعطي الضمانات لأي سلطة فتح وتسوية الملفات الصعبة والشائكة، لحيازة كل الضمانات الضرورية لمعالجة أي قضية مهما كانت حساسة لسلامة وضعها في مواجهة الرأي العام الوطني والدولي.
وبالتالي فإن معالجة ملفات الإرث الإنساني في موريتانيا معالجة شاملة ونهائية، سوف يتوقف على قدرة النخبة السياسية الموريتانية على التخلص من حكم العسكر، ومدى نجاح الانتقال الديمقراطي – المتعثر مند أكثر من عقدين من الزمان – وتقدم الحياة السياسية، والقادرة على حلحلة تعقيدات الوضع الموريتاني داخليا وخارجيا، وخلق الحاضنة الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تتبنى قيم وثقافة حقوق الإنسان الداعمة لآليات مسار العدالة الانتقالية.
وفي الختام ينبغي التنبيه إلى أن ملف حقوق الإنسان في موريتانيا، ليس ملفا واحدا ولا يمكن معالجته بنفس الصيغ والآليات، بل ينبغي النظر إليه من زاويتين مختلفتين، لاختلاف الخلفيات التاريخية لكل من الملفين وكذلك اختلاف طرق التسوية وإمكانيات الحل وآفاقه في الزمن المنظور.
فما يعرف بملف الإرث الإنساني، ملف ذو طبيعة إنسانية حقوقية، بينما ملف الرق والعبودية في موريتانيا، فيتعلق بمظلمة تاريخية تعرضت لها مجموعة كبيرة من الشعب الموريتاني، وقضية ذات طبيعة ثقافية اجتماعية متعددة الإبعاد تتداخل فيها الكثير من العوامل، السياسية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية.
وهو ما يعني ضرورة معالجة ملف الإرث الإنساني في موريتانيا،عبر تسوية تعتمد تطبيق آليات العدالة الانتقالية، وتضمن العدالة والإنصاف، لكن من الواضح أن ذلك الهدف ما يزال أمرا بعيد المنال وتواجهه الكثير من العقبات والتحديات الجسيمة، رغم أهمية تصفية هذا الملف بشكل عادل ومنصف، بوصفه أحد مداخل تحقيق الاندماج الاجتماعي لبلد متعدد الأعراق ويعاني نسيجه من التمزق منذ عقود.
في حين أن موضوع الرق والعبودية في موريتانيا أكثر تعقيدا ولا يمكن إنهاؤه بإصدار التشريعات أو اتخاذ القرارات السياسية على أهميتهما كمدخل لمواجهة الموضوع، وبالتالي لن يكون ممكننا تسوية هده الظاهرة إلا عبر تحقيق أهداف التنمية الشاملة، أي تحقيق ازدهار اقتصادي وتغيير البنية الثقافية والاجتماعية، بما يضمن تطوير الذهنيات والعقليات التقليدية، ونشر ثقافة حقوق الإنسان وترسيخ قيمها وتأسيس دولة القانون والمؤسسات، الضامنة للمساواة وتكافؤ الفرص، بوصفها الأدوات الأكثر قدرة على تجاوز الأزمات العرقية في موريتانيا، ذلك أن الحيف الاجتماعي والمظالم التاريخية، رغم خطورتها، تبقى قابلة للتجاوز ما لم تتخذ من الفقر والجهل جناحي للتحليق نحو مستقبل مجهول، ولن نحول دون ذلك المجهول إلا بتحقيق أهداف التنمية، وتجسيد دولة الحق و القانون الضامنة للعدالة بين أفراد شعبنا.
محمد محمود ولد أبى المعالي
د ا رسة تحليلية لخريطة الن ا زعات في الساحل
)موريتانيا، مالي، والنيجر(
وفي سبتمبر عام 1114 شنت السلطات الموريتانية حملة اعتقالات واسعة النطاق، وصودرت عش ا رت
الكتب والأشرطة والأجهزة والممتلكات، وبثت وسائل الإعلام الرسمية اعت ا رفات لبعض المعتقلين بالمشاركة
في تأسيس تنظيم سري، وكان من بين المعتقلين قياديون سابقون انفصلوا عن التنظيم الإسلامي قبل سنوات
طويلة، من بينهم محمد محمود ولد محمد الأمين رئيس الحزب الحاكم حاليا في موريتانيا، والحسن ولد
مولاي علي، وبومية ولد ابياه، وآخرون، وشنت وسائل إعلام النظام حينها حملة واسعة ضد الإسلاميين.
وأعاد نظام ولد الطايع الكرة ثانية ضد الإسلاميين، ودخل معهم سنة 2222 في مواجهة سياسية أسفرت
، عن اعتقال العش ا رت منهم، واستمرت تلك الأزمة إلى غاية سقوط النظام بانقلاب عسكري سنة 2222
الص ا رع اللغوي – العرقي.. تاريخ من التوتر
كما توجد نذر ص ا رع عرقي مزمن في البلد يأخذ في غالب تجلياته بعدا ثقافيا لغويا، بين دعاة التعريب
ودعاة التفرنس، بين المجموعة العربية، والمجموعات الأفريقية الزنجية الأخرى، خصوصا مجموعة “الهالو
بولار”، وكانت أول محطة للصدام العرقي في البلاد سنة 1162 أي بعد الاستقلال بخمس سنوات، حين
صدر قانون التعليم القاضي باعتماد التعريب ورفع عدد ساعات تدريس اللغة العربية في المدارس الحكومية،
حيث اعتبره المثقفون والتلامذة الزنوج مؤامرة لإقصائهم من أجهزة الإدارة وابعادهم لصالح المجموعة العربية.
وفي مطلع عام 1166 دخل التلاميذ الزنوج في إض ا رب مفتوح عن الد ا رسة سعيا إلى إلغاء الق ا رر الذي
يفرض تعليم اللغة العربية في المستوى الثانوي، وبلغ التوتر العرقي ذروته يوم 1 فب ا رير 1166 بحصول
اشتباكات وصدامات ذات طابع عنصري بين التلاميذ الزنوج والتلاميذ العرب، خلفت ستة قتلي وعش ا رت
الجرحى. وبالت ا زمن مع ذلك أصدر 11 من أطر ومثقفي الزنوج بيانا شديد اللهجة يؤيد مطالب التلاميذ
الزنوج باعتماد اللغة الفرنسية لغة رسمية للبلد وابعاد اللغة العربية عن المدارس الحكومية، اوعتبار حركة
الطلاب الزنوج الاحتجاجية “إيذانا بمرحلة جديدة ستتم خلالها إعادة النظر في أسس التعايش بين القوميات
المكونة للمجتمع الموريتاني”، وردا على بيان المثقفين الزنوج صدر بيان باسم البيضان “العرب البيض”
وكان حادا وشديد اللهجة وحمل في ثناياه إقصاء واضحا، حيث اعتبر أن الحل الوحيد للأزمة العرقية في
البلاد هي المفاضلة النهائية مع الأقلية الزنجية، وأن لا مستقبل للبلاد في ظل التعايش معهم.
وفي تلك الفت
ظلت موريتانيا تترنح على فوهة بركان طيلة السنوات الموالية، وفي إبريل عام 1986 أصدرت “حركة
تحرير الأفارقة الموريتانيين” المعروفة باسم “افلام”، وثيقة تحت عنوان “صرخة الزنجي الموريتاني المضطهد”،
لافتة فيها النظر إلى ما سمته وجود مشكلة حقيقية في التعايش بين المجموعتين العربية اولزنجية في
موريتانيا، وشنت فيها هجوما عنيفا على النظام الحاكم وعلى الأغلبية العربية، وشبهتها بالأقلية البيضاء
الحاكمة في جنوب أفريقيا حينها.
وطيلة شهري سبتمبر وأكتوبر عام 1986 عرفت مدن نواكشوط، نواذيبو وكيهيدي احتجاجات مكثفة لل زنوج
بتأطير من قيادات زنجية في حركة “افلام”، وتميزت تلك الاحتجاجات في بعض الأحيان بالعنف الموجه
26
ضد المواطنين المدنيين من العرب وممتلكاتهم، وأدت تلك الاحتجاجات إلى إح ا رق عدد من سيا ا رت الموظفين
ومحطات للبنزين وبعض الأسواق والمصانع.
واعتقلت السلطات 30 من قيادات حركة “افلام”، وتمت محاكمتهم بسرعة بتهم “جر البلاد إلى حرب أهلية”،
وصدرت على 27 منهم أحكام بالسجن ت ا روحت بين 6 أشهر و 5 سنوات، وقد توفي بعضهم في سجن
بمدينة ولاته شرق البلاد تحت التعذيب أو بسبب سوء ظروف الاعتقال.
[1] Voir : Louis Frèrejean ; Mauritanie , 1900 -1911. Commandant freregean, mémoires de randonnées et guerre au pays des beïdanes, EDITIONS, KHARTALA, paris , 1995.Commandant freregean, mémoires de randonnées et guerre au pays des beïdanes, EDITIONS, KHARTALA, paris , 1995.
[2] – أنظر للإطلاع على التفاصيل، الخليل النحوي، بلاد شنقيط : المنارة والرباط ، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،
تونس، 1987.
[3] – ديدي ولد السالك، إحلال اسم موريتانيا بدل شنقيط : الأسباب والخلفيات.، دراسة منشورة ضمن كتاب جماعي، المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية، طرابلس، 2010.
[4] – أنظر : موريتانيا من 1900 إلى 1975 . قراءة في سفر من التاريخ، للباحث فرانسيس دي شاسه Francis de Chassey ترجمة الدكتور محمد بن بوعليبة بن الغراب. دار النشر: جسور، الجزائر، 2013.
[5] – voir : Moktar OULD DADDAH ; Mémoires ; LA MAURITANIE CONTRE VENTS ET MARÉES éditions Karthala à Paris, ont réalisé l’édition en Français (version originale) en 2003, et en Arabe en 2006.
[6] – محمد المصطفى ولد بدر الدين، مقابلة مع موقع السراج الإحباري، http://essirage.net، نواكشوط، 2014.
[7] – د. بلال ولد حمزة ، دور الحركات الحقوقية أمام واقع وآفاق الجهود المبذولة من أجل القضاء علي ظاهرة الرق وآثاره في موريتانيا، مداخلة في ندوة الإذاعة عن الرق، www.assaba.net، نواكشوط، 6-05-2013.
[8] – وثائق نضال البعث في موريتانيا، موقع، الشعلة، .arabblogs.com، نواكشوط، 2013.
[9] – نفس المرجع، ص 9.
[10] – أنظر تفاصيل ذلك في : وثيقة عريضة لجنة ل ” تسوية محاولة الإبادة الجماعية ضد زنوج موريتانيا”، موقع ،. Net .tawassoul .
نواكشوط، 2014.
[11] – brahim ould bakar ould sneiba, ‘La Mauritanie : entre les Chars et les Urnes, 1978-2008’ , édité par la Fondation Cheikh M’Rabih Rabou pour le Développement et le Patrimoine, Nouakchott, 2013.
[12] – mohamadou sy, L enfer d inal, Mauritanie L HORRUER des camps, L HARMATTAN, paris ,
[13] – جبريل جالو، جرائم الإبادة في موريتانيا، “هيمنة الأقلية وظاهرة الإفلات من العقاب” (الحلقة الأولى) ، موقع، tawary.com ، نواكشوط، 2012 |
[14] Ibrahim ould bakar ould sneiba, ‘La Mauritanie : entre les Chars et les Urnes, 1978-2008’
[15] ibid
[16] – إجلال محمود رأفت، الصراع السنغالي – الموريتاني : دراسة تحليلية، للمسببات المحلية والدولية، كلية الاقتصاد ، جامعة القاهرة، مصر القاهرة، 1990.
[17] – انظر : تفاصيل تلك الأحداث والخسائر الناجمة عنها في : ( الكتاب الأبيض) الذي أصدرته وزارة الخارجية الموريتانية، بنواكشوط، أغشت 1989.
[18] – للتفاصيل يمكن مراجعة، ( الكتاب الأبيض ) الذي أصدرته وزارة الخارجية السنغالية ، دكار ، 1989.
[19] – إجلال محمود رأفت، الصراع السنغالي – الموريتاني : دراسة تحليلية، للمسببات المحلية والدولية، كلية الاقتصاد ، جامعة القاهرة، مصر القاهرة، 1990.
[20] – أنظر : السيد دودو ديين، بعثة المقرر الخاص إلى موريتانيا، العنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصُّب – متابعة تنفيذ إعلان وبرنامج عمل ديربان، تقرير المقرر الخاص المعني بالأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري
وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب.
الأمم المتحدة، الجمعية العامة، مجلس حقوق الإنسان، الدورة الحادية عشرة البند ٢ من جدول الأعمال، 16 مارس 2009
[21] – Mme Gulnara Shahinian, Rapport de la Rapporteuse spéciale sur les formes contemporaines d’esclavage, y compris leurs causes et leurs conséquences, Additif , Mission en Mauritanie.
Nations Unies, Assemblée générale, 24 août 2010.
[22] – Mme Gulnara Shahinian, Rapport de la Rapporteuse spéciale sur les formes contemporaines d’esclavage, y compris leurs causes et leurs conséquences, Additif , Mission en Mauritanie.
Nations Unies, Assemblée générale, 24 août 2010.
[23] – أنظر نسبة لحراطين في عدد سكان موريتانيا في : مــــيـــــــــثــــاق : من أجل الحقوق السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية للحراطين ضمن موريتانيا موحدة، عادلة ومتصالحة مع نفسها. المعروف : ب “وثيقة لحراطين”، نواكشوط ، 2013.
[24] – أنظر : نسبة فقر لحراطين في : مــــيـــــــــثــــاق : من أجل الحقوق السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية للحراطين ضمن موريتانيا موحدة، عادلة ومتصالحة مع نفسها. المعروف : “بوثيقة لحراطين”، نواكشوط ، 2013.